هل تُغيّرنا الصدمات؟ وكيف تؤثر التجارب القاسية على أدمغتنا ووعينا النفسي؟
الصدمات واللحظات الصعبة جزءٌ طبيعي من الحياة، ولكن أثرها قد يطول عمّا كُنت تعتقد، وربّما يكون أعمق مما كُنت تتصوّر.
والحقيقة أن ما يحدث من قلق أو خوف وقت الصدمة، ليس هو النتيجة الوحيدة التي قد تختبرها بعد التعرض لهذه التجربة، فربّما يستمرّ ذلك القلق بعد أن تركت فيك الصدمة تأهبًا مستمرًا دون داعٍ، ولزمن طويل.
فالدماغ قبل الصدمة ليس كما بعده؛ إذ يتراجع نشاط مناطق معينة، ويزداد نشاط مناطق أخرى مرتبطة بالخوف والعدوانية، فما تأثير الصدمات النفسية على تشكيل الدماغ؟ وهل تأثيرها دائمًا سلبي؟ أم أنّ هناك ضوءًا في نهاية النفق ونموًا نفسيًا بعد تلك الصدمات؟
اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)
اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) هو اضطراب ينشأ عقب التعرّض لحدث صادم، بما يجعل الشخص يعانِي أفكارًا ومشاعر شديدة تتعلّق بالتجربة، تستمر لفترة طويلة بعد الحدث أو الصدمة، كما تتضمّن استجابة اضطراب ما بعد الصدمة:
- القلق أو الاكتئاب أو الشعور بالذنب أو الخجل.
- تكرر ذكريات الماضي أو المرور بكوابيس.
- تجنّب المواقف والأماكن والأنشطة المرتبطة بالحدث المؤلِم.
كيف يستجيب الدماغ بعد التعرّض للصدمات؟
عندما يحدّد دماغك تهديدًا معينًا، تكون اللوزة الدماغية مسؤولة عن إنشاء رد فعل سريع وتلقائي، يُعرَف بـ"استجابة القتال أو الهروب"، وهذه اللوزة تتواصل مع مناطق أخرى في الدماغ، بما يؤدِّي إلى إطلاق هرمون التوتر "الكورتيزول".
ومن ثم يتعين على قشرة الفص الجبهي تقييم مصدر التهديد، وتحديد ما إذا كان الجسم بحاجةٍ إلى البقاء في حالة تأهب قصوى للتعامل مع التهديد، أو تهدئة الجسم، إذ تشكل نظام كبح، يساعد على إعادة جسمك إلى حالته الطبيعية، عندما تدرِك أنّ التهديد لا يشكّل خطرًا أو بعد زوال التهديد.
وبالمجمل، فإنّ اللوزة الدماغية التي تثِير استجابة القتال أو الهروب، تكون استجابتها شديدة في الصدمات، وفي كثير من الأحيان بطريقة غير متناسبة مع الخطر الذي يشكّله التهديد. وفي الوقت نفسه، فإنّ الجزء المسؤول عن تهدئة رد الفعل في الدماغ لا يعمل جيدًا بما فيه الكفاية.
تأثير الصدمات النفسية على تشكيل الدماغ
يؤثِّر اضطراب ما بعد الصدمة في بِنية الدماغ ووظيفتها، فلا يعود الدماغ كما كان سابقًا، وليس الأمر مُجرّد خبرة يكتسبها المرء من الصدمة التي تعرّض لها، بل الأمر أعمق من ذلك بكثير، وهذا ما يحدث:
1. انخفاض المادة الرمادية في قشرة الفصّ الجبهي:
قشرة الفص الجبهي، هي جزء الدماغ الذي يقع خلف الجبهة مباشرةً، وهي المسؤولة عن التخطيط واتخاذ القرارات والتحكّم في السلوك وغير ذلك.
وحسب مراجعة نشرت عام 2020 في دورية "Experimental Neurology"، فإنَّ اضطراب ما بعد الصدمة، ارتبط بانخفاض المادة الرمادية في قشرة الفص الجبهي، والمادة الرمادية هُنا هي نسيج الدماغ الداكن، الذي يشارِك في معالجة المعلومات واتخاذ القرارات، ما يعني أنّ اضطراب ما بعد الصدمة قد يؤثّر في قدرة المرء على اتخاذ القرارات لاحقًا.
اقرأ أيضًا:كل ما تحتاج إلى معرفته عن الاكتئاب المزدوج.. وكيف تتجاوزه لتعيش براحة نفسية؟
2. فرط نشاط اللوزة الدماغية:
اللوزة الدماغية هي مركز الخوف في الدماغ، وتساعد القشرة الجبهية على تنظيم اللوزة الدماغية وقمع استجابة الخوف، لكن اللوزة الدماغية ليست مرتبطة بالخوف فحسب، بل أيضًا بالعدوانية والتواصل الاجتماعي والتفاهم، بما في ذلك كيفية تفسير نيات شخص ما من خلال طريقة حديثه أو تصرفه.
وحسب نفس المراجعة المنشورة عام 2020، فإنّ اضطراب ما بعد الصدمة قد يؤدِّي إلى فرط نشاط اللوزة الدماغية، وقصور نشاط القشرة الجبهية البطنية الوسطى في الدماغ، التي بالأساس تثبّط نشاط اللوزة الدماغية.
3. ضعف نشاط مركز المكافأة في الدماغ:
أظهرت مراجعة نشرت عام 2021 في دورية "Chronic Stress"، أنَّ المصابِين باضطراب ما بعد الصدمة، انخفض التفاعل لديهم في المناطق العصبية المرتبطة بنظام المكافأة، بل انخفض الشعور بالرضا عن المكافأة، ومعها انخفضت مستويات الدوبامين أيضًا.
4. تغيّرات في بعض مناطق الدماغ الأخرى:
وهذا يشمل وجود انبعاجات في اللوزة اليمنى، المسؤولة عن معالجة الخوف، والتي تساعد على تكوين الذكريات العاطفية، بالإضافة إلى الحُصين الأيمن، المسؤول عن تكوين ذكريات جديدة، وهذا كان مرتبطًا بالحالات الشديدة من اضطراب ما بعد الصدمة، حسب دراسة نشرت عام 2017 في دورية "Chronic Stress".
5. تغيّرات في المخيخ:
لم يقتصر أثر اضطراب ما بعد الصدمة على المخ فحسب، بل قد يترك بصمته أيضًا على المخيخ، فحسب دراسةٍ نشرت عام 2024 في دورية "Molecular Psychiatry"، فإنَّ اضطراب ما بعد الصدمة كان مرتبطًا بانخفاض كل من المادة الرمادية والبيضاء في المخيخ، الذي يقع في الجزء الخلفي من الرأس، والمسؤول عن المهارات الحركية والتوازن والمشاعر والذاكرة.
اقرأ أيضًا:كيف تحمي صحتك النفسية من الأخبار السيئة وتتجنب "التصفح المُهلك"؟!
الآثار السلوكية والإدراكية لإعادة تشكيل الدماغ بعد الصدمات
ليس التغيّر بنيويًا في الدماغ فحسب، بل تتغيّر كثير من السلوكيات نتيجة اضطراب ما بعد الصدمة، وفيما يلي أبرز آثار هذا الاضطراب:
1. فرط اليقظة:
يتضح النشاط المفرط للوز الدماغية في فرط اليقظة أو الحذر الشديد الذي يعتري الإنسان، والاستجابة المفاجئة المبالغ فيها؛ إذ يُفرَز النور أدرينالين، بسبب التفاعل المفرط للوزة الدماغية، ولا تتحكّم القشرة الدماغية في ذلك بما يكفي.
والنتيجة: يكون الشخص متأهبًا جدًا، يُثار بشكلٍ مفرِط، بما يجعل من الصعب عليه الاسترخاء والنوم، بل قد يشعر المرء بالتوتر دائمًا، وحتى المحفزات الصغيرة يمكِن أن تنشِئ رد فعل كما لو كان يواجِه أو يعِيد تجربة الصدمة الأصلية!
2. استدعاء مُشوّه للذكريات:
يشارِك الحُصين في تكوين الذاكرة، وفي تخزين المعلومات المرتبطة بحدث الصدمة في أثناء تكييف الخوف (تعلّم الربط بين موقف معين وبين شعور الخوف)، وعندما يفشل الحُصين في العمل بشكل طبيعي، فإنّ ذلك يؤثر في الطريقة التي يتذكّر بها الشخص الذكريات، خاصةً التي تحتوي على عنصر الخوف، مثل تلك المتعلقة بالصدمة.
وهذا قد يؤدِّي إلى:
- ذكريات متكررة بخصوص الحدث المؤلم.
- مُعتقدات سلبية مشوهة أو غير واقعية.
- استرجاعات مفاجئة للصدمة مصحوبة بانفصالٍ عن الواقع.
3. السلوك الاندفاعي:
قد ينخرط المصاب باضطراب ما بعد الصدمة في سلوكيات عالية الخطورة، ولعلّ ذلك يكون بسبب انخفاض سُمك قشرة الدماغ في مناطق معينة مرتبطة بتنظيم المشاعر وتثبيط الاستجابة، بما في ذلك التلفيف الجبهي الأيمن.
هل يمكِن استعادة الدماغ كما كانت قبل الصدمة؟
الدماغ عضو مرن بطبيعته، ويمكِن عكس الضرر الناجِم عن الصدمة بالعلاج المناسب وتلقّي الدعم، ومِنْ ثمّ استئناف كل جزء من الدماغ وظيفته الطبيعية، لكن يُحدِّد الطبيب الطرق العلاجية المناسبة حسب كل حالة، وقد تكون الخيارات الآتية من بين الحلول المقترحة:
1. الأدوية:
قد يصف الطبيب بعض الأدوية لتخفيف أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، مثل أدوية الاكتئاب، الفعالة في مكافحة بعض الأعراض.
اقرأ أيضًا:كيف تعيد الابتسامة توازنك النفسي
2. إزالة حساسية حركة العين وإعادة المعالجة:
وهي طريقة علاجية تستخدم حركات العين المُوجّهة لمساعدة الدماغ على معالجة الذكريات المؤلمة بطريقة أكثر توازنًا.
3. العلاج النفسي:
كذلك قد يكون العلاج السلوكي المعرفي حلًا لتخفيف أعراض اضطراب ما بعد الصدمة؛ إذ يركّز على تدريب الدماغ على إعادة صياغة أنماط التفكير السلبية، بما يساعد الأشخاص على معالجة الصدمات التي تعرّضوا لها وفهمها بشكل أفضل.
4. العلاج بالتعرّض:
قد يساعد التعرّض المتحكَّم فيه للمخاوف بشأن حدثٍ صادم، في مكان آمن، في تقليل مشاعر القلق والضيق المرتبطة باضطراب ما بعد الصدمة.
5. الرعاية الذاتية:
من الضروري الاهتمام بالنفس ورعايتها جيدًا، باستخدام تقنيات الاسترخاء، كالتنفّس العميق، وكذلك بالحصول على قسط كاف من النوم، وممارسة التمارين الرياضية، فمن شأنها أن تحسّن الحالة المزاجية.
نمو ما بعد الصدمة: كيف تتحول التجربة إلى قوة؟
رغم التغييرات البنيوية والوظيفية في الدماغ، وفرط اليقظة أو الحذر الشديد، وتكرار الذكريات المؤلمة بشأن الحدث الصادِم، ثمّة جانب إيجابي لا يمكِن إغفاله حول الصدمات، وهي أنّك لم تعُد كما كُنت في السابق.
لا ليس الألم النفسي أو القلق الذي تشعر به الآن، بل النمو والنضج النفسي الذي صرت عليه اليوم، والذي لم يكُن ليحدث لولا الحدث الصادم الذي مررت به.
فنمو ما بعد الصدمة "Post-traumatic growth" هو تغيير نفسي إيجابي؛ استجابةً للصدمات؛ إذ يتغيّر فهمك لذاتك وللآخرين وللعالم، بل يمكِن أن يتعايش المرء بالنمو بعد الصدمة مع اضطراب ما بعد الصدمة، حسب "Psychology today".
فمن دلائل نمو ما بعد الصدمة؛ إدراك الناجين من الصدمات الفرص الجديدة واغتنامها، أو إقامة علاقات أقوى مع أحبائهم وكذلك مع الضحايا الذين عانوا بنفس الطريقة.
بل إنّهم ينمّون قوتهم الداخلية من خلال معرفة أنّهم تغلّبوا على صعوباتٍ هائلة، كما يكتسبون تقديرًا أعمق للحياة، فليس كل تغيير يطرأ بعد الصدمة سلبي، بل ربّما كانت المنحة التي تعِينك على صعوبات الحياة مستقبلًا.
