د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل» : مبادرة "مقاهي الدردشة"
انطلقت في بريطانيا مبادرة نوعية لتشجيع المقاهي على تحديد طاولات يجتمع فيها أشخاص مع غرباء لتبادل أطراف الحديث. وسرعان ما انضم إليها مقهى بريطاني شهير (كوستا) وبلغ عدد الجهات المشاركة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية ما يزيد على 1400 مقهى.
تبين لأصحاب مبادرة "مقهى الثرثرة" أن "الكلام" يصبح "بلسمًا شافيًا" عندما يلتقى مع آذان صاغية لأنه يريح المرء، ويزيل همومه وغمومه. فالإنسان كائن اجتماعي يبحث عمن يفهمه ويتفاعل معه. وما أكثر تحديات الحياة التي لا تحتاج إلى حلول بل مجرد أذن ترهف السمع بعيدًا عن التصنع الزائف.
هذه المبادرة الإنجليزية، التي انطلقت عام 2017، يمكن البحث عن مقاعدها المنتشرة عبر الإنترنت تحت مسمى Chatty Cafe التي يخصص كل مقهى فيها ساعات محددة ترحب بمن يحاول التغلب على مشاعر الوحدة عبر الحديث مع غرباء، حيث توضع لافتة كرتونية صفراء على الطاولة المشاركة في الفعالية.
غير أن مشكلة الغرباء وغيرهم تظهر عندما يختارون "المثلث الجدلي" وهو الحديث السياسي، والرياضي، والديني الخلافي، فهي غالبًا أحاديث متشعبة وحمالة أوجه تنتهى عادة بصدامات. فبدلًا من أن يشعر المرء بالراحة في حديثه مع من يلتقيه لأول مرة سيشعر أنه قد دخل في معضلة حوار عقيم، لأنه لم يحسن طرح السؤال الأول. ولذلك تطرح المبادرة على "اللافتات" الصفراء الموضوعة على الطاولات أسئلة بسيطة يفتتح بها الحوار بعد إلقاء التحية، مثل كيف حالك؟ وما آخر كتاب قرأته أو فيلم شاهدته، وهل تذكر تفاصيل أكثر سفرة ممتعة لم تنسَها؟ ولو عاد بك الزمن في أي عام تود أن تعيش فيه، ولماذا؟ وهكذا لينطلق الطرفان في حديث مريح وآمن بعيدًا عن الصدامات.
كان المقهى عربيًا وما زال مكانًا للفضفضة والتقاء الأحبة. لكنه لم يشهد مبادرة منظمة للقاء الغرباء. فكان نجيب محفوظ يلتقى مع رفاقه الأدباء في مقهى الحرافيش أسبوعيًا. لكن روعة التحدث مع شخص جديد تكمن في أنها تحمل رؤى مختلفة عما اعتادت عليه آذاننا مع الأصدقاء والمقربين.
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل» : كيف "تتحاور" القردة؟!
وحبذا لو نُظِمَ ما يشابه تلك المبادرة في وطننا العربي بوضع قواعد للحوار، توضع على الطاولات مثل: ابتسم بعفوية مع إلقاء التحية، تجنب المثلث الجدلي، أنصت بقدر ما تتحدث أو أكثر، لا تقاطع ولا تلقِ محاضرات، تذكر أنك لا تحتكر الحقيقة، اجعل أفكارك قصيرة ومركزة، لا تفرط في الحديث عن الذات، لا تفرض رأيك بل ضعه على الطاولة ليتأمله الطرف الثاني، اختم الحديث بابتسام وكلمة طيبة كأن تقول: فرصة سعيدة جمعتني بك.
المفارقة أن المقاهي يجتمع فيها النقيضان: الدردشة والعزلة الاجتماعية. فقد روي عن الكاتب السينمائي المصري وحيد حامد أنه كتب معظم أفلامه في مقهى فندق مطل على النيل، وكان يستخدم ألوانًا يرسم بها شخصيات أفلامه. وفعل ذلك أدباء غيره في المقاهي، لكن تلك اللقاءات كانت إما فردية أو جامعة لثلة من المفكرين والمثقفين.
مبادرة "مقاهي الدردشة" التي أطلقتها الناشطة في مجال صعوبات التعلم والتوحد "ألكساندرا هوسكن" في مدينة أولدهام الإنجليزية، مثال على كيف يمكن لفكرة بسيطة أن تُحدث أثرًا واسعًا حين تُنفذ بذكاء ومنهجية. فقد انتشرت الفكرة في أكثر من ألف موقع، وأثبتت دراسات عديدة أن الفضفضة، حين تجد أذنًا صاغية وموضوعًا مريحًا بعيدًا عن الجدل والأحكام المسبقة، تترك أثرًا فوريًّا ومريحًا على النفس.
