د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل» : تعاطف معي ولا تُشفِق علي!

حينما نسمع أحدًا يقول ببرود "مسكين..الله يعينك" من دون إبداء أي إيماءات أو عبارات تظهر اهتمامه الصادق بمعاناتنا فنحن أمام مشهد "شفقة" sympathy. أما حينما يقول "أنا حاس فيك، وأفهم اللي تمر فيه" ثم يصغي إلى محدثه بكل جوارحه "وكأن على رأسه الطير" كما يقال (من شدة التركيز) فنحن أمام موقف "تعاطف" وجداني empathy، محمود في الحوار.
شتان بين التعاطف والشفقة (أو العطف). هما مفهومان شائعان في التواصل إلا أن كثيرًا منا يقع في خطأ عدم التفريق بينهما. فالتعاطف نوع من العلاج النفسي، ورقي في التعامل مع من يشكي همومه وغمومه. منه التعاطف المعرفي وهو "فهم" ما يشعر به الآخر، والتعاطف العاطفي وهو "الإحساس" به. وهناك ما يجمع بينهما ويطلق عليه "التعاطف السلوكي" وهو حينما يجمع المنصت بين الفهم والإحساس والرغبة في المساعدة.
وهنا تجدر الإشارة إلى مسألة جوهرية، وهي أن كثيرًا من مشاعر الفضفضة لا تتطلب حلولًا، لاسيما في بدايات الكلام. كما أن كل ما تنشده هو أذنٌ صاغية لا تنتقد، ولا تلوم، ولا تعاتب، ولا تحكم بل تترك المتكلم يبوح بخلجات نفسه بأي أسلوب شاء. ولذلك كان اختيار التوقيت أمرًا مهمًّا لكي يسترسل المكلوم، والمجروح، والمخذول، والمظلوم، والمقهور، والمصدوم.. من دون مقاطعة.
في حين أن الشفقة تختلف كليًا عن التعاطف المريح. ذلك أن الإشفاق فيه شيء من الفوقية كمن يربت على رأس طفل يجهش بالبكاء ثم يمضي في حال سبيله.
التعاطف مسألة في غاية الأهمية في التواصل. فقد أظهرت دراسة حديثة أصدرتها دورية الأرشيف الدولي للعلوم والبحوث عام 2024، عن العلاقة بين الإنصات الفعال والتعاطف وغيره في مجال التمريض أن الممرضين الذين يمتلكون مهارات أعلى في الإنصات الفعال كانوا أكثر تعاطفًا مع المرضى. ولذلك أوصى الباحثون بزيادة برامج التدريب على الإنصات.
في دراسة أخرى عن القيادة، نشرت عام 2020، في المجلة الدولية لأبحاث البيئة والصحة العامة، اتضح للباحثين أن إنصات المدير المباشر للموظفين بصورة فعالة مع التعاطف يؤثر بشكل ملحوظ على "اندماج الموظفين" في أعمالهم. ويعد استخدام الباحثين لمقياس الاندماج الوظيفي أمرًا في غاية الأهمية لأنه يقيس مدى الحماس والتفاني والانغماس في العمل.
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل» : هيبة الصمت.. ووقاره
وفي دراسة أخرى نشرت في دورية اضطرابات التواصل عام 2022، جاء الباحثون بأولياء أمور طلبة يعانون التأتأة وطلبوا منهم تقييم المختصين وهم يتواصلون مع أبنائهم، ثم لوحِظ أن الآباء قيّموا تعاطف المختص بصورة أفضل عندما شاهدوه يستخدم مهارات إنصات فعالة مع أبنائهم. وكشف التحليل الإحصائي قوة الإنصات على تعاطفهم مع المصابين بالتأتأة. وهو ما تؤكده دراسات سابقة أن أبرز مهارات الإنصات الجيد تتمثل في مقدرة صاحبها على التعاطف.
والتعاطف ليس مقصورًا على العيادات والمرضى، بل هو صفة قيادية أصيلة ومؤثرة. فمن صفات القيادي الفعال مقدرته على "التعاطف"، أي يستطيع أن يضع نفسه مكاننا لتفهم حالنا، وقبل التسرع بالحكم علينا.
تعاطف المستمع لا يعني مقاطعته لكلام المتحدث من دون مبرر. فالمقاطعة لسرد قصة مشابهة ليست سلوكًا محمودًا، إذ إنها تقطع حبل الأفكار وتربك سلاسة البوح. كما أن من لغة الجسد ما هو أبلغ من الكلام، كإيماءة بالرأس، أو نظرة تفيض بالاهتمام، أو صمت يشي بالإصغاء.
من صور الشفقة: "لو كنت مكانك لفعلت كذا وكذا" هذا التعليق يشعر المتحدث بالقصور والنقص، كأننا نحكم عليه بانطباع سلبي بل نلومه بطريقة غير مباشرة.
الشفقة إظهار للتأسف على من يتألم أو يعاني، في حين أن التعاطف مشاركة وجدانية خالصة بتفهم الحالة ومحاولة احتوائها بلطف، عبر آذان صاغية. ولنتذكر أنه حين يصغي القلب، لا حاجة إلى الكلمات.