د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل» : هيبة الصمت.. ووقاره

يُعد الصمت من أعمق صور التواصل غير اللفظي، غير أننا كأمة شفهية جبلت على تجميد الفصاحة كثيرًا ما نغفل عن تقدير أهل الصمت الجميل، وكأن الهدوء لا يستحق الإنصاف.
الصمت لغة هو الامتناع عن الكلام مع القدرة عليه، وغالبًا ما يبنى على وعي أو حكمة. وشتان بين السكوت والصمت، فالسكوت انقطاع مؤقت عن الكلام إما لعجز أو لتردد أو لعدم رغبة في التحدث. ولذلك "يصادر" البعض حقنا في التعبير حينما يقول: السكوت علامة الرضا، مثل من يريد أن يجبر ابنته على الزواج من شخص بعينه، فيقول السكوت علامة الرضا، مع أنها ما زالت مترددة!
كما يقال "الساكت عن الحق شيطان أخرس" على اعتبار أنه كان بإمكانه أن يدلي بدلوه لكنه آثر السلامة.
إذن يمكن القول إن الصمت فعل اختياري، يصدر عن العقل في حين قد يسكت الفرد لظرف اضطراري، مثل قوله تعالى في القرآن الكريم: "وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ" ولم يقل صمت، لأنه فعل مؤقت وعابر.
ولذلك يوحي الصمت بالوقار والتأمل على اعتبار أنه أطول زمنا من السكوت. وقد يفهم البعض من السكوت على أنه علامة على الضعف أو التردد.
ويقول الإمام علي -كرم الله وجهه-: "إذا تم العقل نقص الكلام". وهو الذي قال أيضًا "بكثرة الصمت تكون الهيبة". والمتأمل لفضيلة الصمت يجدها تنم عن بوادر للحكمة في صاحبها. فالحكيم أقرب للصمت منه للكلام، لأنه يبحث دائمًا في صمته عن نفسه وفي إنصاته إلى الآخرين عن ضالته. ولا إنصات من غير صمت.
و"الصمت سياج الحكمة" كما يقال، لأن كل حديث نخوضه قد يكون محفوفًا بمخاطر الانزلاق نحو المهاترات أو الجدل العقيم، ولذلك كان من الحكمة التأني بما نتفوه به قبل التورط بمشكلات نحن في غنى عنها. ألم يقل سيد البشرية (صلى الله عليه وسلم) إن "أكثر خطايا ابن آدم في لسانه". ولذا قيل إن "الصمت منجاة".
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: "صيام الاعتراض"
من محاسن الصمت أنه يفسح المجال للآخرين للتعبير عن مكنوناتهم، فلا يمكن لأحد أن يتحدث في ظل احتكار جليسه للحوار ناسيًا أن الصمت في الحوار هو جزء أساسي في التواصل لأنه يفسح المجال لآخرين للتحدث بأريحية.
ومن ثمرات الصمت أنه يمنح صاحبه فرصة التدبر في كلماته قبل التفوه بها، فالكلمة إذا خرجت من ألسنتنا صارت ملكًا للآخرين، يمكن أن يدينوننا بها في أي لحظة.
ومن الناس من يعتقد أنه مسؤول عن الرد على كل شاردة وواردة من كلام الناس وكأنه أنيطت به مهمة إصلاح الكون، لكن واقع الأمر يؤكد أن من بين عشرات من نجالسهم نجد نماذج سلبية عدة، كالسفيه مثلا، الذي لا ينفع معه سوى أن نكرمه بسكوتنا!
وعلى الجانب الآخر، فإن مشكلة الإنسان مع من يلوذون بالصمت الطويل، أن صمتهم يرفع من سقف توقعاته تجاههم. فالصمت بطبيعته يجعلنا نتوسم في صاحبه الخير، غير أن الصدمة تقع حينما يتفوه هذا الصامت بكلمات ساذجة تقلل من هيبته ووقاره، وهو ما دعا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى قول: "أرى الرجل فيعجبني فإذا تكلم سقط من عيني".
المفارقة أننا كعرب قد نشأنا في بيئة شفهية، ويشهد تاريخنا بتجميد الفصحاء حتى علقنا أشعارهم على أستار الكعبة، ولم نسمع أن مدرسة أو ناديًا أو نقابة عربية علقت صور أناس كانوا يتحلون بهيبة الصمت ووقاره!