الصمت.. ورشة ترميم دماغية
هل الصمت محفز حسّي للدماغ أم مجرد حالة فراغ لا فائدة منها؟ انشغل باحثون ألمان بهذا السؤال، فقرروا أن يقيسوا أثر الصمت على أدمغتنا، هل هو محفز حسي مثل الموسيقى والأصوات المحيطة أم مجرد لحظات سكون لا جدوى منها.
المفاجأة أن الصمت لم يكن مجرد سكون بل حمل رسالة عصبية قوية تركت أثرًا أبقى وأعمق من كل المحفزات الأخرى. ذلك أن العلماء قد أتوا بفئران تجارب تعرضت لأصوات عدة، منها مقطوعة الموسيقار موزارت، فضلًا عن نداءات الصغار، والضوضاء البيضاء الخفيفة، إلا أن اللافت كان الصمت، وهو ما أعاد للدماغ حيويته.
ذلك أن الصمت كان له تأثير أطول في تحفيز الخلايا العصبية الجديدة في الدماغ -امتد لأيام- أكثر من كل الأصوات الأخرى التي لم يكن لها سوى تأثير لحظي سرعان ما اختفى. بعبارة أخرى، وصف الباحثون نتائجهم بأنها دليل علمي جديد على أن الصمت ليس "حالة سلبية" بل "نشاط بيولوجي خفي" يُسهم في إعادة تشكل الدماغ بهدوء، بحسب بحثهم المنشور عام 2013 في دورية BSF، بعنوان "هل الصمت من ذهب؟".
هذه الدراسة هدمت الفكرة السائدة عن الصمت باعتباره بلا أثر تحفيزي، بينما يعمل في الواقع بصمت لبناء خلايا جديدة في أدمغتنا. وأنا بوصفي كاتبًا لنحو ثلاثة عقود، استفدت كثيرًا من صمتي. فقد لاحظت أن أكثر أيام خلوتي يتحمس فيها ذهني بصورة مذهلة. وأجد حماسة قوية للعودة ليومياتي ونشاطي. ولاحظت أن أكثر تغريدات كتبتها كانت في عطلة نهاية الأسبوع حيث الاسترخاء، والهدوء، وقلة الاحتكاك بالناس.
اقرأ أيضا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل» : كيف "تتحاور" القردة؟!
إذن الصمت هو ورشة ترميم عصبية تحفز الذهن لاستقبال تجارب أكثر، والإقبال على الحياة بحيوية ونشاط.
صحيح أن الصمت فضيلة، لكن طول الصمت ليس أمرًا صحيًّا من ناحية دينية وعلميّة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمارس الصمت الجزئي ويكسره بين حين وآخر بكلام هادف وترويح عن النفس، حيث قال "عليك بطول الصمت، فإنه مطردة للشيطان، وعون لك على أمر دينك". أي إنه أميل للصمت من الكلام. وأظهرت دراسة لباحثين من دريسدن بألمانيا أن الصمت لنحو ساعتين يوميًّا كافٍ لإطلاق خلايا عصبية جديدة في منطقة الحُصين الدماغية وهي المسؤولة عن الذاكرة والتعلّم وتنظيم المشاعر والقدرة على التكيّف مع التجارب الجديدة.
ورغم أن الصمت يخفض التوتر، ويحسن التركيز، ويؤثر إيجابًا على الذاكرة، فضلًا عن تحسين المزاج، حسب أحد التقارير الطبية، فإننا في الواقع لا نعلمه لأطفالنا كما نعلمهم الكلام. ومثلما نخطط ليومياتنا المليئة بالثرثرة لِمَ لا نخطط لسويعات من الصمت نشحذ بها همتنا؟!
