وسام كيروز يكتب لـ«الرجل»: من هو الأعظم ... في عالم الموسيقى الكلاسيكية؟
في عالم الحداثة المتوحشة، العالم الذي يمضي فيه الإنسان ثماني ساعات كل يوم تجره المقاطع القصيرة وتصادر وعيه وإرادته ورغباته الحقيقية. في عالم تقرر فيه الخوارزميات خيارات الإنسان وتلزمه بها يصبح للموسيقى الكلاسيكية معنى آخر تمامًا. تلك الموسيقى تبدو طوقًا للنجاة، ورمزًا للتحرر من عبودية التقنية ودكتاتورية الرائج.
أضف إلى ذلك، ونحن نكتب زاويتنا في منصة الرجل، أنه ربما ليس هناك ما يبدو أكثر أناقة من رجل عصري يستمتع بالموسيقى الكلاسيكية، ويختار ليومه ساعة ميكانيكية نادرة، ويقود سيارة تجوب الطرقات الراقية منذ الستينيات. إذن - وبين كل تلك - الموسيقى الكلاسيكية هي الأعظم، لأنك لا تقاربها بقلبك فقط، بل بعقلك وبرغبتك بالارتقاء من جهة، والغوص من جهة أخرى.
وإذا ما سألت العارفين كلهم، ما أعظم أنواع الموسيقى؟ فسيرد الشرقي والغربي، القاصي والداني: الموسيقى الكلاسيكية. ليس لأنها نمط ولا أنها لغة، بل لأنها الشكل الأسمى لتناغم الأصوات. هي شيء بين الفن والرياضيات والقانون والطقوس واللغة والوطن والشكل والمعنى، وهي كل تلك الأشياء معًا.
وللموسيقى الكلاسيكية عواصمها، لن أقول فيينا حيث ما زال طيف موتزارت يحوم في الشوارع، ولا براغ "دفروجاك"، ولا باريس "دوبوسي"، بل سأتحدث مثلًا عن كاراكاس، حيث منح قائد الأوركسترا غوستافو دوداميل أطفال الشوارع آلات موسيقية ليغير حياتهم للأبد، وأتحدث عن بيروت حيث أوقفت الأزمات كل شيء، إلا حفل الموسيقى الكلاسيكية الذي تقدمه الأوركسترا السمفونية كل يوم جمعة. وسأتحدث عن هافانا والقاهرة ومسقط التي بنت صرحًا من أجمل صروح الموسيقى الكلاسيكية في العالم: الأوبرا السلطانية.
وهنا سنطرح السؤال الثاني: من هو الأعظم بين مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية؟
حاول كثيرون وضع قوائم واضحة، ونهائية. اختلفت المعايير وتغيرت المراتب، ولكن ظل في البوديوم، أي في المراتب الثلاث الأولى، الأسماء ذاتها. وولفغانغ أماديوس "موتزارت"، ولودفيغ فان "بيتهوفن"، ويوهان سيباستيان "باخ".
الأولان يهيمنان على المخيلة المشتركة للبشرية. موتزارت الطفل المعجزة، الذي أذهل العالم بعمر 3 سنوات، والذي موسيقاه تجعل أعتى العازفين يرتجفون من شدة "سهولتها". كيف يمكن أن يؤلف أي شخص موسيقى بهذا الوضوح، بهذا الصفاء، بهذه الطفولة؟!
موتزارت كأنه لا يؤلف الموسيقى، بل كأنه يتلقاها، شأنه شأن طابعة أو مذياع. كل نوتة لا يمكن استبدالها بأي نوتة أخرى. كل شيء في مكانه. لا "شخبطة" ولا "خربشة" على مخطوطاته. وكأنها الموسيقى التي تأتي من فوق.
اقرأ أيضًا: وسام كيروز يكتب لـ«الرجل»: العالم العربي.. حين يحتضن أحلام العالم الموسيقية
اكتمال البديهية الموسيقية لدى موتزارت، يتجلى خصوصًا في الموسيقى الجنائزية التي كتبها المؤلف النمساوي في نهاية أيامه. كان يكتبها لموته هو. ولمن لم يسمع بعد: مقطوعة "لاكريموزا" .. هيا اسمعها.. قبل أن يمضي العمر!
يضاهي موتزارت في الاكتمال، الألماني بيتهوفن. العبقري الفاقد للسمع في نهاية حياته، خط أيضًا صفحات من الموسيقى البديهية، التي تأتي فيها كل نوتة في مكانها. لكن ليس هناك خط مع السماء في هذه الموسيقى، بل قرار إنساني عند كل جملة موسيقية. الكثير من "الخرطشة" و"الشخبطة" .. لأن المؤلف يختار، كإنسان يكافح ويجاهد، الخيار الموسيقي الأعظم، في كل لحظة. انتقلنا مع بيتهوفن من مرحلة السماء إلى مرحلة الأرض.. إلى الدم والعرق والجهد الإنساني.
لمن لم يسمع سوناتا "ضوء القمر" .. الوقت يمر، ولن يكون القمر كما كان، قبل المقطوعة وبعدها!
لكن الأكبر بينهم، سيبقى "باخ". لدى الألماني الذي أمضى حياته يؤلف الموسيقى لكنيسة لايبزيغ شرق البلاد، ويعتني بأبنائه العشرين.. نعم (20) ما يكفي من الموسيقى ليلهم عازفي الجاز والروك بعد ثلاثمئة سنة. موسيقاه هي الاكتمال، هي اللامتناهي. كل شيء يبدأ في موسيقاه، وينتهي فيها. إنها الرياضيات والروحانيات معًا، السماء والأرض حينما تلتقيان!
لمن لم يكتشفها بعد .. مقطوعة "الخرفان ترعى بسلام" .. Sheep may safely graze .. ستمنحك السلام!
