وسام كيروز يكتب لـ«الرجل»: تستطيع أن تلمس الموسيقى.. لتحبها أكثر!

لو سألنا الناس ما هي الأغنية التي كانت حديث العالم في صيف 2023 مثلًا، لن يتذكر أحد على الأرجح. هذا لأن الموسيقى أصابتها كل أمراض زمننا: الاستهلاكية، التعب السريع، قصر الانتباه، الوفرة، سرعة الرواج والأفول، والأسوأ ربما، فقدان الجسد المادي!
ابنتي البالغة من العمر 15 عامًا، حاولت أن تفسر لي لماذا تهوى شراء أسطوانات السي دي، وتبحث عن موسيقى من زمن آخر، مسجلة على وسائط من زمن آخر، وتخزنها في خزائن من زمن آخر. ابنتي قالت لي: "أحب الموسيقى أكثر عندما أستطيع أن ألمسها"!
للمفارقة، وقبل أسابيع فقط، اتصلت بي الوالدة حفظها الله لتسألني ما إذا كان يجب أن تتخلص من آلاف أشرطة الكاسيت التي أحتفظ بها في منزلها، ذلك المنزل حيث أمضيت طفولتي بين الأشرطة والتسجيلات، وحيث كنت أنتظر أغانيّ المفضلة ليبثها الراديو فأسجلها –مقتطعة في بدايتها بالتأكيد– وذلك في ممارسة لن يفهمها إلا من عايشوا زمن ما قبل الإنترنت.
كانت جملة ابنتي دافعًا لأعاود الاتصال بوالدتي، وأطلب منها أن تتحمل كل ذلك الغبار المتراكم فوق أشرطة الكاسيت، لأن في ذلك الغبار شيئًا من قصتي، وذكرياتي، وإرثي، وعواطفي، وعشقي للموسيقى، ووعدتها بأنني سأنقلها إلى مكان آخر.. لعله يليق بها.
الحقيقة أننا فقدنا مع الموسيقى تلك العلاقة العضوية، تمامًا كما فقدناها مع الصور. الصورة كانت مقتنى محبوبًا، نحمله في طيات كتبنا، يسافر معنا ليحفظ وجوه من نحب.. كانت الصورة نادرة وثمينة، وأصبحت كثيرة وبلا قيمة..
بالعودة للموسيقى، نتساءل ماذا سيبقى من موسيقى زمننا للمستقبل، فبعد 60 سنة، لا تزال أغاني أم كلثوم تعيش وتلهم، وما زالت أغاني فيروز تحرك مشاعر الناس. لن يبقى الكثير من أغاني زمننا، لكن سيبقى القليل، وعلى الأرجح، لن تبقى الأغاني الضاربة. سيأتي بعدنا من يكتشف أجمل ما لدينا، والذي لم يحظ بفرصة في زحمة الحسابات والخوارزميات.
وفي هذا البحث عن العلاقة العاطفية الضائعة مع الموسيقى، قد تكون وصفة ابنتي هي الترياق لسموم الزمن: احتفظ بموسيقاك في الأشرطة، في الأسطوانات، وفي ديسكات الفينيل، ولذلك الخيار أسباب مقنعة، تراوح من الروحي إلى الفكري مرورًا بالعملي.
اقرأ أيضًا: وسام كيروز يكتب لـ«الرجل»: فرصة استثمارية واحدة لم تضع منك.. الحرية
فمن ناحية تقنية، هناك غطاء سحري في صوت الموسيقى الذي يصدر من الأشرطة والأسطوانات. فالفينيل مثلًا، سيعيد تقديم الموسيقى كما لو أنك تجلس في حضرة الموسيقيين، وكأن المغني يجلس على الطرف الآخر من غرفتك. تجربة الحواس هنا تأخذ بُعدًا آخر وأعمق مقارنة بكل تلك الموسيقى المخزنة في الغيوم الرقمية.
وعند اقتناء الموسيقى بهذه الطرق التي تبدو قديمة بالنسبة للكثيرين، أنت تستثمر في الارتباط العاطفي مع الأغنية أو العمل الموسيقى. تصبح الأسطوانة هيكلًا للحنين، ومسكنًا لكل تلك الذكريات التي تحفظها الموسيقى، أو للمشاعر التي ولدتها منذ اللحظة الأولى لأول استماع. تصبح الأغنية ملكك بشكل غريب، وكأنها عصفورك السجين!
هذا الخيار أيضًا يحولك إلى مقتنٍ لخيارات لامتناهية من الأغلفة الخاصة، والإصدارات النادرة. ستسافر من مدينة إلى مدينة بحثًا عن ذلك الألبوم الذي ستجده عند بائع متجول على قارعة النهر في باريس، أو براغ، أو في أحد المتاجر القديمة في المدن العربية، والتي غالبًا لا يعي صاحبها أن بحوزته كنوزًا حقيقية، وبقيمة مادية كبيرة.
وفي النهاية، كثيرون يقتنون الساعات واللوحات والسيارات الكلاسيكية، لكن الموسيقى أيضًا يمكن أن تصبح جزءًا من إرثك، من تركتك التي تبقى للأجيال القادمة. تذكر أن أسطوانة الفينيل يمكن أن تحفظ الموسيقى لأربعمئة سنة لو كانت محفوظة في الظروف المناسبة.. فنحن سنرحل، وتبقى الموسيقى.