وسام كيروز يكتب لـ«الرجل»: احرص على الموسيقى التصويرية لحياتك






كل تلك الصور التي ستبقى في البال، كل تلك الأفلام التي نسميها الذكريات، لن تكون صامتة. ستملؤها ضحكات وصرخات وكلمات اخترقتنا إلى الأبد، سواء بجمالها أو بقبحها أو بوقعها الصاعق، وستملؤها أيضًا الموسيقى. دون أن نعرف، كل نغمة سمعناها، كل أغنية رددناها، كل فنان عايشناه، كل ذلك جزء من الخلفية السمعية لهذه الحياة التي نبينها أو نعبر بها: إنها الموسيقى التصويرية لحياتنا.
في إحدى أجمل أغانيه، يقول الفنان الفرنسي الكبير ميشال لوغراند: "الأغاني تموت حين ننساها". ذلك لأنه ليس للموسيقى، وعلى خلاف باقي فنون العالم، أي مكان تسكن فيه سوى الإنسان، فعلى الإنسان أن يبدعها، وأن يؤديها، وأن يسمعها في كل مرة حتى تعيش. لا ترقد في صخرة ولا على قماشة، لا ترتسم في مبنى ولا تختبئ في بكرة أفلام. تحيا بحياة الإنسان، وتموت حينما ينساها!
وإذا كانت الملكيات الأوروبية ارتبطت بالموسيقى العظيمة، وباحتضان وتمويل الحركة الموسيقية عبر التاريخ، فإن ملك بريطانيا الحالي الملك تشارلز وحده مع فتح صندوق مكتبته الموسيقية الخاصة أمام كل الناس، في خطوة غير مسبوقة، كشف عن الموسيقى التي يسمعها في حياته، وعن ارتباط كل ما يسمعه بذكرياته وبأفكاره. بدت الموسيقى وكأنها طريقته ليحفظ قصته المعقدة، وليتقرّب من العوالم التي لا ينتمي إليها، عوالم الناس العاديين.
هذا الصندوق الموسيقي، ليس إلا الموسيقى التصويرية لحياة الملك، أو جزءًا منها على الأقل!
في خيارات الملك تشارلز الموسيقية، مزيج من السياسي والفني ومن الارتباطات الثقافية التي تجمع بين أكبر إمبراطورية في التاريخ وبين مستعمراتها السابقة. وإذا كانت بريطانيا العظمى استعمرت جامايكا، فإن ملكها اليوم يستمع إلى موسيقى جامايكا المستقلة.
"هل يمكن أن تحصل على الحب" إنها أغنية للهاييتي بوب مارلي وجزء من الموسيقى التصويرية لحياة الملك تشارلز. يستمع للأغنية، يتذكر لقاءه بالفنان في لندن عندما كان كلاهما شابًا. يتحدث الملك عن "الطاقة المعدية" التي تشع من الأغنية، لكن ما، ربما، لم يقله هو كيف يمكن أن تحاكي هذه الكلمات بحث الأمير الشاب عن الحب، بعيدًا عن بروتوكولاته في حياته الملكية المعقدة، وفي مجتمع يضع معايير للنظرة ومعايير للابتسامة.
يحكي الملك تشارلز عن حبه للأغاني التي تحرك الجسد للرقص "لوكو موشن" للفنانة الأسترالية كايلي مينوغ. لعله استمع للأغنية أول مرة لدى صدورها في 1987، وكان حينها إلى جانب الأميرة الراحلة ديانا.
اقرأ أيضًا: وسام كيروز يكتب لـ«الرجل»: الموسيقى تصنع التاريخ.. والسياحة أيضًا
هكذا هي الموسيقى، تلمس الإنسان البسيط في الملك، وتحرر الملك في الإنسان البسيط!
لكن لكلامنا هنا بحث في دور جميل آخر في الموسيقى، وهو أن الموسيقى في النهاية هي حاضنة الذكريات. وإذا ما ذكرتنا أغنية ما بوجه محبوب في الماضي، أو إذا ما أعادتنا الأغنية للحظة أو حدث، فهي إذًا حافظة ذلك الوجه وحامية ذلك الحدث. ليس للموسيقى وجود من دوننا، هي تحيا بقصصنا وتتألق بصورنا وذكرياتنا. هي نحن، في رواية أخرى.
وهكذا، تصبح الموسيقى ترياقًا في وجه الزمن الذي يمر دون توقف. هناك أموال نخزنها في المصارف، وصور نخزنها في الغيوم الرقمية، لكن هناك ذكريات نحفظها في الموسيقى، لا نحفظها فقط، بل نجمّلها ونضمها إلى ذكريات كل إنسان آخر خزّن ذكرياته فيها، لنصبح شعبًا واحدًا من البشر الباحثين عن الحب والبقاء!
الذكريات نخزنها في الموسيقى، أو الموسيقى هي التي تخزن الذكريات فينا.. في كل الأحوال، علينا أن نحرص كثيرًا على الموسيقى التصويرية لحياتنا.