وسام كيروز يكتب لـ«الرجل»: العالم العربي.. حين يحتضن أحلام العالم الموسيقية
صيف آخر يمر على العالم العربي، يعبر نحو الماضي بمزيد من الأزمات، وللمفارقة أيضَا.. بمزيد من النغمات. من بعلبك إلى قرطاج، ما زالت الموسيقى تصنع التاريخ، وتُصنع منه، ولكن هل ستنضم إليه؟
في الشرق الأوسط، وجدت الموسيقى أحيانًا أبهى مسارحها لا في القاعات المذهّبة، بل على أطلال الإمبراطوريات الغابرة. بعلبك في لبنان، وقرطاج في تونس، وجرش في الأردن، هي نماذج لمسارح عريقة تدخل صدى الألحان في سجل الأبدية.
في صيف عام 1971، وقفت إيلا فيتزجيرالد أمام هيكل باخوس في بعلبك. الأعمدة الرومانية مضاءة، والليل مغمور برهبة التاريخ. توقفت فجأة وسط الأغنية، متأثرة بالمشهد، وقالت للجمهور: «ظننت أنني جُلت كثيرًا، وغنّيت كثيرًا، ورأيت كل شيء تقريبًا… لكن انظروا إليّ الآن. الليلة، انضممتُ إلى الكلاسيكيات».
دوّى التصفيق وكأنه في محفل روماني، وبعد سنوات، حين قررت التخفيف من جولاتها، أكدت أنها قد تتخلى عن الكثير، لكنها «لن تتخلى عن بعلبك». بالنسبة لها، لم تكن الأطلال مجرد مسرح، بل طقس عبور إلى الخلود.
بعد عامين، في 1973، جاء مايلز ديفيس إلى بعلبك. انطلق بوقه يخترق سماء الليل، فيما كان هيكل جوبيتر خلفه يغتسل بالضوء. الصور التي بقيت من تلك الليلة تُظهره في هيئة ظلّ، بوقه مرفوع كعلامة انتصار.
ولكثير من اللبنانيين، ظلّت تلك الأمسية ذكرى حلوة ـ مرة؛ آخر مهرجان قبل أن تبتلع الحرب الأهلية البلاد. إحداهن تذكرت بعد عقود: «رأيت مايلز ديفيس يعزف في بعلبك… ثم انتظرت سنوات طويلة حتى تعود المهرجانات بعد أن يخمد الصراع». صار عزفه أكثر من موسيقى؛ صار ذاكرة سلام معلّقة بين الحرب والأمل.
في تونس، صنع مهرجان قرطاج أيضًا لحظاته المدهشة. في عام 1975، أشعل جيمس براون المسرح الروماني بروتينه الشهير حين سقط على ركبتيه تحت صرخات الجمهور، في المكان نفسه حيث كان المصارعون يتقاتلون. وفي ختام الحفل، استقبله الرئيس الحبيب بورقيبة بنفسه، في مشهد أظهر كيف يمكن للموسيقى أن تتحول إلى جسر دبلوماسي.
اقرأ أيضًا: وسام كيروز يكتب لـ«الرجل»: للبحث عن الوقت الضائع .. استخدم الموسيقى
وفي العام التالي، جاء راي تشارلز ليملأ المكان بعبقريته. كان المشهد أقوى من البصر: عبقري أعمى يرسم رؤية لا تُرى إلا بالقلب.
بعد عقود، أضافت جرش فصلها الخاص. ففي صيف 2008، اهتزّ المسرح الجنوبي بصوت بلاسيدو دومينغو، ترافقه أوركسترا القاهرة السيمفونية. الأوبرا، التي وُلدت في بلاطات عصر النهضة الأوروبية، ارتفعت هذه المرة فوق أقواس رومانية تحت سماء عربية.
هذه المهرجانات وُلدت من رؤية. في لبنان مثلًا، تأسس مهرجان بعلبك في الخمسينيات كمشروع اعتزاز وطني، لربط الحاضر بجلال الماضي. وكأنّ في بعلبك وقرطاج وجرش رغبة في تثبيت أقدام البلاد في المستقبل، عبر بوابة التاريخ.
واليوم، يبدو أن في المواعيد التي يكتبها لنا منظمو المهرجانات فرصةً أيضًا لنكون جزءًا من صور الماضي في المستقبل! لكن، سننتظر المستقبل لنتأكد ما إذا كان نجوم الموسيقى اليوم جزءًا من التاريخ أم مجرد عابرين فيه!
