وسام كيروز يكتب لـ«الرجل»: للبحث عن الوقت الضائع .. استخدم الموسيقى
على رابية خضراء في شمال لبنان، دخلنا لنشرب القهوة في مطعم جميل عند مدخل قرية غائرة بين الجمال والنسيان. أتت إلينا صبية جميلة لتخدمنا. تحادثنا وقالت إنها أنهت لتوها دبلوم الدراسات العليا في علم الأحياء، وإنها من بنات القرية، تعمل لتكسب بعض المال الإضافي في الصيف. ذكرت لنا اسمها الذي بدا إسباني النغمة، وأخبرتنا كيف اختارت والدتها الاسم تيمنًا ببطلة مسلسل مكسيكي عُرض في 2002. لقد شاهدت بعض حلقات المسلسل مع جدتي. في مخيلتي، حصل ذلك قبل سنوات قليلة، لم أكن أدرك حجم الوقت الذي مر.
هكذا تتعامل ذاكرتنا مع الماضي بطريقة غريبة، فالبعيد يبدو قريبًا. لأول مرة فكرت بأن بيني وبين سنة 2002، مقدار إنسان مثل "ماريا تريزا". لا شيء يستطيع أن يقيس الوقت الضائع مثل ذلك المكيال الحي. بيني وبين 2002، حياة كاملة، وقصة أزهرت وأثمرت، وكان في ظني أن بيني وبين 2002، لا شيء يُذكر.
وهكذا، أكبر حروب الإنسان كانت وستبقى: البحث عن الوقت الضائع. في كتابه الأشهر الذي قد يكون على رأس قائمة الأعمال الأدبية الأروع في التاريخ، يحاول الكاتب الفرنسي مارسيل بروست أن يكشف أسرار الذاكرة. في الكتاب الذي يحمل هذا المقال عنوانه، "البحث عن الوقت الضائع"، يقول بروست إن الماضي يبدو وكأن لا شيء قد بقي منه إلى أن توقظه الحواس. يقول بروست: "إن الرائحة والطعم مثل الأرواح، تبقى لزمن طويل تتذكر وتنتظر وتأمل على أنقاض كل ما تبقى .. على أنقاض هيكل الذكريات العظيم".
وفي حرب البحث عن الزمن الضائع، يحكي بروست عن ترياق الفن، والموسيقى. ففي وجه الزمن الذي يجرفنا بلا هوادة، يمكن للموسيقى أن تمنحنا شيئًا من القوة، وشيئًا من القدرة على المقاومة، فأيامنا تمضي بلا هوادة، وليس في اليد أحيانًا، إلا أغنية!
اقرأ أيضًا: وسام كيروز يكتب لـ«الرجل»: تستطيع أن تلمس الموسيقى.. لتحبها أكثر!
لماذا نجد في الموسيقى قوتنا في وجه الزمن. أولًا لأن الموسيقى تختزن الجمال بشكل يرتقي فوق السنوات ويستمر عبرها. لو استمعت إلى أعمال "يوهان سيباستيان باخ" التي كتبها قبل 250 سنة، ستشعر أنك أمام جمال وُلد للتو، وأمام جمال موجود منذ الأزل. وإذا سمعت أم كلثوم تغني "أغدًا ألقاك .. يا خوف فؤادي من غدِ" .. فستأخذك موسيقى عبدالوهاب وكلمات الهادي آدم، إلى ماضيك ومستقبلك في الوقت نفسه.
ثانيًا، لأن الموسيقى تذكرنا بأننا نتغير دائمًا. وفي كتابه أيضًا، يجد بروست أن الإنسان ليس لديه هوية واحدة عبر حياته، بل يتغير باستمرار، وهويته تكمن في قراءة شاملة للذاكرة. وهنا الموسيقى تقرأ الذاكرة، ونقرأ معها كيف نتغير. هي لا تتغير، وإذ نسمعها نحن المتغيرين دائمًا، نقيس التغيير فينا، ونلمس بأيدينا ذلك الوقت الضائع.
ثالثًا، لأن الموسيقى هي أكثر الفنون معانقة للموت والحياة في الوقت نفسه. هي تخلق في كل مرة تسمع أو تعزف، ثم تموت بانتظار أن تحيا من جديد، ولكن في هذه الأثناء، وقعها في النفوس لا يموت. هي من جهة أكثر اللحظات هشاشة، تنبعث لبرهة وتضمحل، لكنها من جهة أخرى تعيش للأبد في الذاكرة. وهكذا تذكرنا الموسيقى، بأن ما يعانق الجمال، ومن يعانق الجمال ربما، يحيا للأبد!
لعل كل تلك القوة في الموسيقى التي تبدو منزوعة السلاح، هي ما دفع بالفيلسوف نيتشه للقول بأنه "من دون الموسيقى، ستكون الحياة خطأ". وإذ اعتبرت الكثير من الحضارات والثقافات الموسيقى أداة للعبادة والاتصال باللامنظور، فإنها ببساطة، تعطينا سببًا للأمل والمثابرة ووسيلة الاتصال بذاتنا وبالآخرين عبر الأزمان والسنوات .. لعلنا عبرها، نجد شيئًا من الزمن الضائع.
