وسام كيروز يكتب لـ«الرجل»: الأغاني أيضًا.. تجعلنا شعبًا واحدًا
أن تتشارك اللغة نفسها مع شخص آخر، يعني أن تدخل أفكاره وتلامس مشاعره، لكن أن تتشارك أغنية معه، فأنتما تنتميان لشعب واحد، لا بالهوية الوطنية، ولا بالانتماء القبلي، بل بهوية المشاعر والمخيلة، وكل العوالم ما بينهما.
حصل أن التقيت بجمع من الأصدقاء السودانيين، وأسررت لهم بأنني تعرفت على أغاني بلادهم الجميلة. حدثتهم عن حبي لأغنية يقول فيها الكبير بشير عباس "حجبوك عن عيني ليه يا ترى"، ثم رددنا معًا أغنية تحولت إلى نشيد غير معلن للحنين: "الليلة بالليل، نمشي شارع النيل". لا أعرف شارع النيل، لكنني أعرف شعور المشي فيه. لا أعرف لون المباني في الخرطوم، لكنني آلف لون الشوق إليها. هكذا هي الأغاني، تختصر حياة أحدهم لتدمجها في حياة آخر.
وبقدر ما استُخدمت الموسيقى والطبول في شحذ الحروب، بقدر ما استُخدمت الأغاني في إقناع الحروب بالتروي. بقيت سنوات أحاول أن أفهم ما الذي كان يقصده مغنيّ المفضل "جاك بريل"، عندما قال في إحدى أجمل أغانيه: "عندما لا نملك سوى الحب لمخاطبة المدافع، ولا نملك سوى أغنية، لإقناع الطبول"! كان يتكلم عن الأغاني حين تصنع السلام.
اقرأ أيضا: وسام كيروز يكتب لـ«الرجل»: العالم العربي.. حين يحتضن أحلام العالم الموسيقية
وإذا كان الكاتب أمين معلوف تحدث يومًا في كتابه "الهويات القاتلة"، عن الهوية كطبقات تتالى وتتكامل، بعيدًا عن الصفاء الذي لا يوجد إلا في ذهن المتطرفين، فإن الأغاني أيضًا تقدم لنا أجمل صور الهويات المتصالحة. أذكر ما قاله المغني العظيم شارل أزنافور حينما سُئِل إذا كان يشعر أنه فرنسي أكثر أم أرمني أكثر. رده كان درسًا في علم الهُوية.. قال: أشعر أنني مئة بالمئة فرنسي.. ومئة بالمئة أرمني.
هكذا هي الأغنية فيها الكثير من الطبقات.. فكأنني مع أغاني محمد وردي أصبح سودانيًا بعض الشيء، ومع صليحة التونسية، يصبح جرح التشتت التونسي وحرب الفتنة الباشية، شيئًا من جروحي الغائرة. أشير هنا إلى واحدة من أروع الأغاني في تاريخ شعوب المنطقة.. "مع العزابة"، التي تحكي على لسان امرأة من جبال وسلات في القيروان، قصة سبي ابنتها البكر.. المأساة أصبحت أغنية، والأغنية أصبحت كتاب تاريخ، وذلك الكتاب أصبح هوية، أبعد من القيروان، وأوسع من تونس.. هوية ضمتني بمرارتها الإنسانية، وجمال روحها!
ثم تأتيك الأغاني التي تمد لك يدها لكي تغيرها، لكي تقرأها بعيونك أنت، وتاريخك أنت. الأغاني ليست متعصبة. سمعت شبانًا من الخليج يعيدون أداء أغنية فيروز "كيفك إنت" بإيقاعات من بلدانهم. غنوا بلهجة لبنانية خليجية: "بتذكر آخر مرة شفتك سنتها .. بتذكر كان في واحدة مضايق منها.." ظن كثيرون أن الموضوع لا يتعدى المحاولة الكوميدية اللطيفة .. فاتهم أن أغنية زياد الرحباني وفيروز ولدت في تلك اللحظة من جديد، أصبحت بيتًا لعالمين.
أضحكني شاب سعودي نشر مقطعًا كوميديًا لطيفًا على وسائل التواصل الاجتماعي قال فيه إن فيروز كانت تغني النمط السامري، وكانت تشير إلى وادي الدواسر، عندما قالت "نسم علينا الهوا من مفرق الوادي".. فلم يعد هناك شيء يفصل بين وادي عالم فيروز الحالم ووادي الدواسر في قلب السعودية، سوى أغنية!
ثم لدينا كل أولئك الفنانين الذين يتحولون إلى نجوم وأبطال في أماكن بعيدة عن وطنهم.. الفرنسية ميراي ماتيو، كانت نجمة روسيا الأولى، وداليدا الإيطالية المصرية المولد، حولتها فرنسا لنجمة عالمية. في عالم الأغاني، وطن القلب واحد.
ثم أتساءل، ماذا لو أتيحت لنا فرصة اعتناق أغاني الآخرين، كل ما يسكن في قلوبهم ونبقيه خارج أسوارنا!
لعل في تلك الأغاني ما يجعلنا شعبًا واحدًا.. ككلمات هذه الأغنية لجاك بريل: بالعربي
لا أعرف لماذا يتساقط المطر
من تلك الخرق المبللة في السماء
تلك الغيوم الثقيلة السوداء
لينام على أرصفتنا ...
لا أعرف لماذا يستمتع نسيم الصباح
بمداعبة ثغور الأطفال
كمن يعزف على قيثارة الشتاء
لا أعرف شيئًا عن كل ذلك
لكنني أعرف أمرًا واحدًا،
وهو أنني ما زلت أحبك
لا أعرف لماذا تفوح رائحة التيه
على تلك الطرق التي تقودني
بين أشجار الحور
وتجرني نحو المدينة
لا أعرف لماذا أفكر بتلك الكنائس القديمة
التي يصلون فيها للحب الضائع
أفكر بها كلما غلفني حجاب الضباب
لا أعرف شيئًا عن كل ذلك
لكنني أعرف أمرًا واحدًا،
وهو أنني ما زلت أحبك
لا أعرف لماذا تفتح المدينة أسوارها أمامي
تدخلني إليها ضعيفًا،
تحت المطر، وبين عشاق لا أعرفهم
لا أعرف لماذا تلتصق جباه السكان بالنوافذ
كأنهم يحتفلون بهزيمتي
كأنهم يرقبون الجنازة
لا أعرف شيئًا عن كل ذلك
لكنني أعرف أمرًا واحدًا،
وهو أنني ما زلت أحبك
لا أعرف لماذا تحتضنني تلك الشوارع،
الشارع بعد الآخر،
شوارع باردة، عارية، عذراء،
لا أسمع فيها سوى خطواتي
تحت سماء من دون قمر..
لا أعرف لماذا أتى بي الليل إلى هنا
كمن يعزف على قيثارة لحنًا حزينًا
أتى بي هنا لكي أبكي أمام محطة القطار هذه..
لا أعرف شيئًا عن كل ذلك
لكنني أعرف أمرًا واحدًا،
وهو أنني ما زلت أحبك
لا أعرف أي ساعة يغادر
ذلك القطار الحزين إلى أمستردام
قطار سيستقله زوجان هذا المساء
زوجان أنت المرأة فيه...
ولا أعرف إلى أي ميناء تذهب
تلك السفينة من أمستردام
السفينة التي تكسر الأمواج وقلبي وجسدي
تكسر حبنا معًا، ومستقبلي وحدي
لا أعرف شيئًا عن كل ذلك
لكنني أعرف أمرًا واحدًا،
وهو أنني ما زلت أحبك
وهو أنني ما زلت أحبك...
