الصيام الرقمي: كيف تقلل التشتت التكنولوجي وتعزز روحانيتك في رمضان؟
رمضان ليس مجرد شهر للصيام، بل مدرسة للتدرب على ضبط النفس، والارتقاء الروحي، مع التخلص من رواسب الحياة اليومية التي تثقلنا، وفي عصر تهيمن عليه الملهيات الرقمية والإشباع الفوري، فإن الشهر الفضيل يجسد الترياق الأقوى ضد المغريات التي تكبلنا.
ولعل التحدي في رمضان لم يعد يقتصر على الإمتناع عن الطعام والشراب فحسب، بل يشمل مقاومة الحلقة المفرغة من المقاطع القصيرة على مواقع التواصل، والمحتوى الرقمي، وغيرها من الملهيات التي ربما تكون فارغة من أي معنى.
فالصيام هو معركة ضد الشهوات والمغريات والملهيات، وهي معركة صعبة من دون شك، خصوصاً أن الخوارزميات تصمم بشكل عام، وفي رمضان بشكل خاص، لإبقاء المستخدمين لأطول فترة ممكنة، يقومون بالتصفح العشوائي بلا وعي.
وكما يكبح الصيام الرغبات الجسدية، ينبغي أن يمتد ليشمل الاستهلاك الرقمي، حيث نتعلم ضبط النفس ضد الإفراط في استخدام منصات التواصل الاجتماعي، والقيل والقال والتفاخر، الذي يملأ هذه المساحات الافتراضية.
الصيام الرقمي!
يعرف الصيام الرقمي، بأنه ممارسة الإمتناع الطوعي عن إستخدام الأجهزة الرقمية، والإبتعاد لفترة محددة عن المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو ببساطة يشبه عملية التخلص من السموم، حيث يهدف إلى تقليل الإعتماد على التكنولوجيا، وتعزيز أسلوب حياة صحي وأكثر توازناً.
فكما يحتاج الجسد إلى استراحة من الطعام للتطهير والتخلص من السموم، كذلك يحتاج العقل إلى استراحة من التحفيز الرقمي المستمر، وعليه فإن الأهداف تتنوع بين البدنية والنفسية، والغاية منها تحسين الصحة العقلية والنفسية، والتفرغ لكل ما هو هام في حياتنا الواقعية، والفوائد هذه لها أهمية مضاعفة خلال شهر رمضان، لكونها تخدم الغاية من الشهر الفضيل.
كيف تقلل من استخدام الهاتف في رمضان؟
يركز رمضان على الانضباط الذاتي والتأمل، والابتعاد عن الأمور التي تشتت تركيزنا، مما يتوافق تماماً مع فكرة الصيام الرقمي، حيث إستخدام الانقطاع الرقمي كمكمل للصيام عن الطعام والشراب، لايجاد المزيد من الوقت للعبادة، ولتقوية الروابط العائلية ولتحسين الذات، فكيف يمكن تقليل الوقت الذي نمضيه ونحن نستخدم هواتفنا؟
- الأهداف الواقعية:
الصيام الرقمي يختلف في مدته لناحية عدد الساعات وشدته، أي أنه قد يكون فترة تطهير كاملة أو مع قيود جزئية.
وبطبيعة الحال، فإن الأهداف يجب أن تكون منطقية، وتتناسب مع شخصياتك، خصوصاً أن الابتعاد عن العالم الرقمي في عصرنا هذا يعد تحدياً كبيراً.
بعض الأشخاص يملكون قوة الإرادة التي تمكنهم من الانقطاع الكلي عن العالم الرقمي، في الجزء الترفيهي منه وليس الخاص بالعمل طبعاً، والالتزام بذلك طوال الشهر، وفي المقابل هناك فئة لا تملك قوة الإرادة، وتحتاج إلى حلول وسط، وعليه فإن الأهداف الصغيرة القابلة للتنفيذ أفضل.
فعلى سبيل المثال يمكن البدء بعدم استخدام الهاتف قبل ساعة من النوم، ثم عدم استخدامه لساعتين بعد بضعة أيام، وهكذا، والنهج التدريجي هذا يساعد على بناء القدرة على التكيف.
ولتحديد الأهداف بشكل واقعي، يفضل تقييم الاستخدام الرقمي الخاص بك من خلال استخدام أدوات مثل "سكرين تايم Screen Time" لأجهزة "آبل"، و"ديجيتال ولبينج Digital Wellbeing" لأجهزة "أندرويد"، لمعرفة أي من التطبيقات تستهلك وقتكم، والفترات التي تكون خلالها أكثر عرضة للإدمان الرقمي، والتخطيط وفق تلك المعلومات.
اقرأ أيضًا| تطبيقات تساعدك على صيام رمضان.. هكذا تطوّع التكنولوجيا خلال الشهر الكريم
- الحدود الزمنية والمكانية:
- تنظيم الجدول الزمني:
قم بتحديد فترات زمنية تقوم خلالها بالإطلاع على الرسائل، أو لمتابعة مواقع التواصل الاجتماعي، في حال كنت ستعتمد مبدأ الانقطاع التدريجي، والأفضل جعل أوقات الاستخدام متباعدة، وطبعاً لا يجب نسيان كتم الإشعارات خارج هذه الأوقات لتجنب إغراء الاطلاع عليها.
- تحديد مناطق خالية من التكنولوجيا:
حدد أماكن تمنع فيها استخدام الأجهزة تمامًا، مثل غرفة الطعام خلال الإفطار، أو المسجد، أو أماكن الصلاة في المنزل، كغرفة النوم أو مناطق الاختلاط الاجتماعي، كغرفة الجلوس خلال زيارة الأقارب، أو مشاهدة التلفزيون، فالمقاربة هذه تمنع التصفح العشوائي خلال الوقت المخصص للعائلة أو للعبادة، ويمكن تحويله إلى نشاط جماعي، بحيث تترك الهواتف خارج غرفة تناول الطعام أو الجلوس.
- التقليل من المغريات الرقمية:
ندرك بأن النصيحة هذه قد تجعلك تشعر بالذعر، ولكن قبل رفضها استمع لما سنقوله، من أجل عدم الاستسلام للاغراء يجب حذف التطبيقات التي تدمنونها مؤقتاً، مثل "إنستجرام" أو "تيك توك" أو "أكس" خلال رمضان، ولكن هذا لا يعني عدم الاطلاع عليها، بل يمكنكم الدخول إليها من نسخة المتصفح، وذلك لأن تصفحها بهذه الطريقة أقل سهولة من التطبيق، ما يحد من الاستخدام المطول لها، كما يمكن الاستعانة ببعض التطبيقات متل Stay Focused وFreedom، التي تقيد الوصول إلى المواقع التي تهدر الوقت.
- التدرب على اليقظة الرقمية:
قبل فتح أي تطبيق خذ نفساً عميقاً واسأل نفسك: "هل هذا ضروري الآن؟"، في المقابل وعوض الرد على الرسائل غير الهامة، والتي لا علاقة لها بالعمل فور وصولها، حدد فترة زمنية تقم خلالها بالرد عليها دفعة واحدة، وحاول ألا تبدأ يومك بالاطلاع على الهاتف، واجعل بداية النهار ونهايته مخصصة لطقوس رمضانية تحرص عليها.
اقرأ أيضًا: حكايات وراء نكهات رمضان عبر الزمن: تاريخ أطباق زينت موائد الإفطار
نصائح لتخلص ناجح من السموم التكنولوجية في رمضان
- تحديد النية:
البداية تكون دائماً بتحديد النيات، وجعل تقليل الوقت الذي تمضيه أمام هاتفك جزءاً من رحلتك الروحية خلال شهر رمضان، واعتبار الصيام الرقمي جزء من أعمال العبادة وضبط النفس، تماماً كالصيام عن الطعام والشراب، فصمم تطهيرك الرقمي كفعل عبادة، مع نية صادقة وإرادة قوية من أجل تقوية إيمانك، وذكر نفسك بأن كل لحظة توفر من التصفح العشوائي يمكن توجييها نحو العبادة أو تلاوة القرآن، وحتى تعزيز العلاقات الاجتماعية والعائلية.
- استبدال الحياة الرقمية بأخرى واقعية:
هناك الكثير من الأمور التي يمكن القيام بها خلال شهر رمضان، والتي لا علاقة لها بالعالم الرقمي، بدءًا من تلاوة القرآن، إلى القيام بالزيارات، فالمساعدة والتطوع، والإنخراط في الأعمال الرمضانية، وكل ذلك سيجعلك تدرك بأن ساعات النهار والليل لا تكفي للقيام بها كلها، لذلك فإن إلهاء النفس بالحياة الواقعية خلال رمضان أسهل مما يخيل إليك، وهذا الجدول المزدحم يقلل فرص التصفح الناجم عن الملل.
- ممارسة الاستهلاك الواعي للتكنولوجيا:
ليس كل وقت أمام الشاشة ضارًا، فاستخدام التكنولوجيا يمكنه أن يخدم الغاية من رمضان، إن نفذت ذلك ضمن الحدود الزمنية والمكانية التي قمت بوضعها لنفسك، إذ يمكن البحث عن محتويات إسلامية للاطلاع عليها، وعوضاً عن مشاهدة المسلسلات، يمكن مشاهدة محاضرات رمضانية أو بودكاست عن رمضان أو الاستماع لتلاوات قرآنية.
كما يمكنك أيضًا تجنب التصفح السلبي أو السطحي، ومتابعة الحسابات التي لها قيمتها الدينية أو الإجتماعية أو الاخلاقية خلال رمضان، وبطبيعة الحال هناك الكثير من الحسابات الملهمة، أو تلك التي تركز على مساعدتكم لجعل رمضان أفضل.
- الاستفادة من إيقاع رمضان الطبيعي:
يتميز شهر رمضان بإيقاع خاص وجدول زمني يختلف عن باقي الشهور، حيث تتغير عادات النوم والأكل والأنشطة اليومية، هذا الايقاع يمكن استغلاله لتقليل الاعتماد على التكنولوجيا و”الديتوكس" الرقمي إن تمت إدارته بذكاء.
فساعات الصيام الطويلة يمكن أن تكون سلاحًا ذا حدين، إما تؤدي إلى الابتعاد عن العالم الرقمي، أو الانغماس فيه أكثر، لذلك يجب التخطيط بعناية للفترات التي تشعر فيها بالإغراء.
مثلاً استغل فترات السحور وصلاة الفجر لقرآة القرآن، وخلال ساعات النهار أي ساعات العمل ضع الهاتف في الوضع الصامت، أما ساعات ما قبل الإفطار حيث يكون الإغراء في ذروته، فيمكن المساعدة في تحضير الطعام أو استغلال الفترة تلك للدعاء.
وبعد الإفطار، هناك الأنشطة العائلية الجماعية، التي من شأنها أن تشغلك عن هاتفك، وطبعاً الليل مخصص للعبادات والصلوات، وبالتالي هناك الكثير من الممارسات التي يمكنها أن تقلل من رغبتك في الترفيه الرقمي.
التعامل مع أعراض الانسحاب
سواء أردنا الاعتراف بذلك أم لا، جميعنا اعتدنا على الاتصال الدائم بالتكنولوجيا، وجميعنا نعتمد على هواتفنا وعلى العالم الرقمي بشكل كبير جداً، وعليه فإننا نختبر في مثل هذا التوقيت أعراض الانسحاب، كالقلق والتوتر وهي أعراض واردة جدًا.
ولكن المعضلة هنا، هي أن الغالبية لا تريد توترات إضافية، خصوصاً وأن الصيام يؤثر على مزاجنا، ولكن كما سبق وذكرنا، الصيام الرقمي يعد جزء من صيامنا، وعليه يجب أن نتعامل معه كما نتعامل مع العقبات الأخرى في حياتنا اليومية خلال رمضان.
القلق والتوتر والشعور بالخوف من عدم متابعة الأحداث هي مشاعر مؤقتة، مثلها مثل الصداع الذي يصيبك خلال الأيام الأولى للصيام، وبعد فترة من التأقلم ستعتاد على الأمر، فقط ذكر نفسك دائماً بالهدف الأسمى من الصيام الرقمي وغير الرقمي، والذي هو التقرب من الله.
المقاربة هذه ستملأ وقت الفراغ، من خلال استبدل التصفح بأنشطة تجعلك تشعر بالرضى عن نفسك، مثل قراة القرآن أو الدعاء، وفي المقابل العزلة الاجتماعية التي قد تختبرونها عندما تبتعدون عن وسائل التواصل، يمكن وضع حد لها من خلال التفاعلات الاجتماعية وجهاً لوجه، سواء في الصلاة بالمساجد أو زيارة الأقارب.
