حكايات وراء نكهات رمضان عبر الزمن: تاريخ أطباق زينت موائد الإفطار

شهر رمضان له خصوصيته الروحانية والدينية والاجتماعية والثقافية، إذ يمثل فرصة للتواصل والاحتفال بالتقاليد والعادات، وفي المقدمة منها الغذائية، وعليه فإن مائدة الإفطار تتجاوز مجموعة من الأطباق المقدمة، لتروي كل ليلة حكايات وتكمل مسيرة بدأت منذ قرون، الغاية منها إبقاء العادات حية، حيث تعكس الأطباق الرمضانية تاريخًا غنياً.
حكايات أشهر الأكلات في رمضان
لا يوجد طبق واحد يعد الأكثر شعبية في مختلف الدول العربية، فلكل دولة أطباقها الرمضانية الخاصة بها، وهنا نتناول حكايات بعض من أشهر هذه الأطباق.
الكبسة والجريش:
يعد طبق "الكبسة" أيقونة المائدة السعودية وأشهر أطباق رمضان، ولكنه يكتسب رمزية خاصة في رمضان، لكونه يحضر في ولائم الافطار الكبرى أو الجماعية.
وهناك روايتان حول أصل هذا الطبق، الأولى ترجح أن أصله إسباني، وأنه مستوحى من طبق "بايليا Paella"، الذي كان وجبة بسيطة تعد من بقايا الطعام، وتم نقل الطبق إلى العالم العربي من قبل التجار والمسافرين العرب خلال العصور الوسطى، ومع مرور الوقت تطور ليصبح ما هو عليه اليوم.
الرواية الثانية، تشير إلى أنه نشأ في صحراء شبه الجزيرة العربية، حيث اعتمدت البيئة البدوية على الأرز، الذي دخل المنطقة عبر طرق التجارة القديمة من جنوب آسيا، واللحوم التي كانت ركيزة الغذاء هنا، ولاحقاً ومع دخول التوابل إلى المنطقة من الهند عبر مواني "جدة" و"القطيف"، أضيفت إلى الوصفة، لتصبح طبقاً يعكس تمازج ثقافات طريق الحرير حينها، أما التسمية فهي بسبب "كبس" كل المكونات في قدر طهي واحد.
وعند الحديث عن رمضان لا يمكننا تجاهل "الجريش"، الذي يعد طبقاَ رمضانياً بامتياز في السعودية، خصوصاً في المناطق الوسطى والشرقية، ويتم تحضيره من القمح المجروش الخشن، ولحم الضأن أو الدجاج مع المرق واللبن، ويطهى حتى يصبح قوامه متماسكاً.
نشأ الجريش في البيئة البدوية، حيث كان القمح يجفف ويخزن ثم يجرش ثم يطهى مع اللحم والمرق، ووفق الروايات فإن أطباقاً تشبه "الجريش" كانت تحضر في شبه الجزيرة قبل الإسلام، معتمدة على الحبوب واللحوم كمصدر أساسي، وفي المقابل يشير البعض إلى أنه نسخة مطورة من الثريد الذي ذكر في السيرة النبوية.
وبغض النظر عن أصله، فقد انتشر في "الحجاز" و"نجد" خلال العصر الإسلامي، وكان يتم تحضيره في المناسبات الدينية والاجتماعية، لقدرته على إشباع عدد كبير من الأشخاص بتكلفة منخفضة، وفي العصرين العثماني والمملوكي دخلت عليه بعض التحسينات، وتم اضافة السمن العربي والبهارات.
الهريس الإمارتي:
رغم التشابه في التسمية وفق المناطق واللهجات، وفي التركيبة الأساسية، لكن "الهريس الإماراتي" يختلف لناحية القوام وآلية التحضير عن "الجريش السعودي".
ويتم تحضير "الهريس الإماراتي" من القمح المجروش بشكل ناعم، مع لحم ضأن أو دجاج بالإضافة إلى السمن، ويطهى حتى يصبح قوامه كالعقيدة، ثم يزين بالسمن والبصل المقلي أو المكسرات.
التسمية مشتقة من فعل "هرس" أو "جرش"، وهو يرتبط بشكل مباشر بالبيئة البدوية واقتصادها، ووفق الروايات المتداولة، رغم عدم وجود أدلة مباشرة على ذلك، يعتقد بأن"الهريس" نشأ في "حضرموت" في اليمن، ثم انتقل إلى الهند، ثم عاد معدلاً إلى الإمارات العربية.
وللهريس قيمته الاجتماعية وعاداته الخاصة، حيث كان يتطلب تحضيره اجتماع نساء القرى، والتناوب على تحريكه وطهيه لساعات طويلة، وترافقت هذه التقليد مع الكثير من التواصل، الذي شكل جزءاً من تاريخ المنطقة الثقافي والاجتماعي.
اقرأ أيضًا: أفضل أطعمة السحور لزيادة التركيز خلال رمضان
الحريرة المغربية:
"الحريرة المغربية" هي شوربة غنية بالمكونات، كاللحم والعدس والخضار والحمص والتوابل وغيرها، ويعود تاريخها إلى عصور قديمة، إذ يعتقد أنها نشأت قبل حوالى 2200 سنة.
وأصول "الحريرة" ترتبط بالقبائل الأمازيغية، حيث كانت تحضر من مكونات بسيطة مثل الدقيق والعدس واللحوم المجففة، لتكون وجبة مشبعة خلال الجفاف والترحال، وكانت تسمى "تاكولا".
مع الفتح الإسلامي في القرن السابع عشر، دخلت مكونات جديدة كالبهارات واللحوم الطازجة، وبعد سقوط "غرناطة" أضاف إليها المهاجرون الأندلسيون تقنيات طهي معقدة، مثل استخدام الطماطم، وفي عهد "الدولة المرينية" ( القرن 13- 15)، أصبحت "الحريرة" طبقاً ملكياً يقدم في القصور، بعد إضافة مكونات فاخرة كاللحم والبيض إليها.
ولعل ارتباطها برمضان بدأ يبرز خلال القرن 18، عندما انتشرت عادة الإفطار عليها في المدن الكبرى مثل "الدار البيضاء"، وذلك لغناها بالبروتينات وسهولة تحضيرها.
الراوية الثانية المتداولة، رغم كونها غير موثقة تاريخياً، تربط بينها وبين "الفونسو السادس" ملك "قشتالة Castile" في القرن 11، الذي اصابه مرض لم يتمكن الأطباء من معالجته خلال حصار مدينة "طليطلة"، حينها أرسل إليه أحد حكام المسلمين إناء من "الحريرة" التي شفته!
رواية أخرى ترتبط بنفس الرجل "ألفونسو"، تدور حول جارية "قشتالية" قدمت إلى والي "قرطبة"، والتي سحرته بجمالها وبالحساء الذي تعده، وكانت تضيف إليه مكونات تجعله "خمولًا"، ومع انتشار هذا الحساء وابتلاء الجميع بداء الخمول، تمكنت كل الجواري من الهروب بعيداً عن سلطة الموحدين، والقصتان بالطبع جزء من الخيال والروايات التي تربط بين قوة التراث الغذائي كأداة لرواية التاريخ.
القطايف:
من أشهر الحلويات الرمضانية في العالم العربي، وطريقة تحضيرها تختلف من دولة إلى أخرى، ولكنها بشكل عام أيقونة رمضانية في مصر وبلاد الشام ( فلسطين، سوريا، لبنان والأردن) وبعض مناطق العراق، وتحشى بالمكسرات أو القشدة، وتقلى أو تشوى وتقدم، وأحياناً تقدم بنسخة مصغرة عن القطايف الأكبر حجماً، وتحشى بالقشدة وتغمس بالقطر ويتم تناولها نيئة، كما يتم تناول القطايف في السعودية والخليج ولكنها أقل انتشاراً من اللقيمات أو المحلبية.
تشير بعض الروايات إلى أن القطايف ظهرت في مصر خلال حكم الفاطميين، حيث كان الطهاة يتنافسون للحصول على رضا السلطان، فتم ابتكارها، فيما تقول رواية أخرى بأن الخليفة الفاطمي رأى حلوى على شكل هلال في المنام فأمر بصنعها، وهكذا تم ابتكارها!
وبعيداً عن تعدد الروايات، فإن المعلومات تشير إلى ارتباطها بالخلافة العباسية، إذ ذكرها "أبن سيار الوراق" في "كتاب الطبيخ" في القرن العاشر، حيث يصف الكتاب القطابف كحلوى تشبه الفطائر، محشوة بالمكسرات المطحونة والسكر.
وفيما يتعلق بالتسمية، يقال بأنها مشتقة من فعل "قطف"، إذ كانت تقطف من الصاج بسرعة قبل أن تجف، أو لأنها كانت "تقطف" وتؤكل بسرعة.
القطايف في نسختها الأولى كانت تحشى باللوز أو الفستق فقط وتشوى، ومع مرور الوقت دخلت حشوات جديدة كالجبنة والقشطة، وباتت تقلى خصوصاً في العصر العثماني.
ولعل سهولة عجنها وحفظه، جعلتها تشتهر في رمضان خصوصاً أن تحضيرها له قيمة اجتماعية، إذ إن عملية حشوها تمثل نشاطًا عائليًّا، خصوصاً في مصر وبلاد الشام.