لماذا كان أسلافنا ينامون مرتين كل ليلة؟ دراسة تفسّر "النوم المزدوج" المنسي
قبل أن تغمر الإضاءة الصناعية المدن وتُغيّر مفهوم الليل والنهار، كان البشر ينامون مرتين في الليلة الواحدة، فخلال قرونٍ من التاريخ الإنساني من أوروبا إلى أفريقيا وآسيا لم يكن النوم المتواصل هو القاعدة، بل كان الناس يخلدون إلى النوم بعد الغروب، في ما يُعرف بـ"النوم الأول"، ثم يستيقظون في منتصف الليل لفترة قصيرة، قبل أن يعودوا إلى "النوم الثاني" حتى الفجر.
وفي ورقة بحثية جديدة يحاول الدكتور دارين رودس، عالم النوم من جامعة كيل البريطانية، تفسير سبب اختفاء هذا الأمر.
وتصف سجلات تاريخية وشواهد أدبية من العصور الوسطى هذه الفترة الليلية بأنها زمن للسكينة والتأمل، حيث كان البعض يشعل النار، أو يقرأ، أو يصلي، بينما يستغل آخرون الوقت بأي طريقة أخرى.
حتى في أعمال الأدب الكلاسيكية، من هوميروس إلى فيرجيل، نجد إشارات إلى "ساعة تنتهي فيها فترة النوم الأول"، ما يؤكد شيوع هذا الإيقاع الليلي عبر الحضارات.
أصل عادة النوم على فترتين في تاريخ الإنسان
يقول دارين رودس إن هذا النمط بدأ بالاختفاء تدريجيًا مع بزوغ العصر الصناعي، فمع ظهور مصابيح الزيت، ثم الغاز، وأخيرًا الكهرباء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تغيّر شكل الليل بالكامل.
أصبح الإنسان يسهر تحت الضوء الصناعي، وتأخر وقت النوم تدريجيًا، حتى تحولت الليلة إلى فترة نوم واحدة طويلة، وهي العادة التي ما زلنا نعيشها اليوم.

ويقول الباحثون إن الضوء الصناعي أعاد برمجة ساعتنا البيولوجية، إذ يؤثر التعرض للضوء الساطع ليلًا على إفراز هرمون الميلاتونين المسؤول عن النعاس.
ومع تحول الليل إلى وقت للعمل والترفيه، فرضت جداول المصانع الحديثة في الثورة الصناعية نمطًا أكثر صرامة، يقوم على فترة راحة واحدة متواصلة، ما جعل النوم المزدوج يختفي تدريجيًا من الحياة اليومية.
ويدعم دارين رودس نظريته قائلا إنه رغم اندثاره في المدن الحديثة، تشير دراسات ميدانية إلى أن بعض المجتمعات الزراعية المعزولة ما زالت تحتفظ بهذا الإيقاع الطبيعي للنوم.
ففي دراسة أُجريت عام 2017 على مجتمع زراعي في مدغشقر لا يستخدم الكهرباء، وجد الباحثون أن الناس هناك ينامون غالبًا على فترتين منفصلتين، تمامًا كما كان يفعل البشر قبل قرون.
تفسير ظاهرة الاستيقاظ منتصف الليل
يضيف عالم النوم "كما أظهرت تجارب مختبرية في الظلام التام أن المشاركين عند غياب الضوء الصناعي والساعات يعودون تلقائيًا إلى نمط النومين الطبيعي، حيث يستيقظون منتصف الليل بهدوء قبل العودة للنوم مرة أخرى".
ويتابع أنه يُعد الضوء فجرًا عاملاً أساسيًا في تنظيم الساعة البيولوجية، خاصة الضوء الأزرق الذي يحفّز إفراز الكورتيزول ويُوقف إنتاج الميلاتونين، لكن في الشتاء أو تحت الإضاءة الخافتة، يضعف هذا التوازن، ما يؤدي إلى اضطرابات في النوم والمزاج.
اقرأ أيضا: قلة النوم تهدد دماغك.. ودراسة توضح الرابط مع الخرف وألزهايمر
بالإضافة إلى ذلك أظهرت دراسات أيسلندية وكندية أن الشعوب المعتادة على الضوء القطبي المتقلب، طوّرت قدرة وراثية على التكيف مع قلة ضوء الشمس، وهو ما قد يفسّر انخفاض معدلات الاكتئاب الموسمي لديهم.
ويشير علماء النوم اليوم إلى أن الاستيقاظ في منتصف الليل ليس دائمًا علامة على الأرق، بل قد يكون بقايا بيولوجية من نظام النوم القديم، وينصح الخبراء عند الاستيقاظ ليلاً بالهدوء وعدم النظر إلى الساعة، والقيام بنشاط بسيط في ضوء خافت كالقراءة أو التأمل حتى يعود النعاس طبيعيًا.
وفهم هذا السلوك القديم، كما يقول دارين رودس من جامعة كيل البريطانية، يمنحنا منظورًا جديدًا للنوم: ليس دائمًا متواصلًا، لكنه متنوع مثل التاريخ البشري نفسه.
