راكان طرابزوني يكتب لـ«الرجل» : التواضع القيادي
تذكرت، وأنا أكتب هذا المقال، ذلك المشهد الفكاهي من أحد مسلسلات الفنان ناصر القصبي، كيف أنه تمت ترقيته مديرًا على زملائه، وما بين ليلة وضحاها أصبح فظًّا وغليظًا معهم، وهم الذين كان بالأمس فقط يتندر معهم في المكتب، وكيف أنه تغير عليهم وأصبح آمرًا ناهيًا، وكأن من مهام منصبه الجديد (المدير) أن يتعامل معهم بتعالٍ بدلًا من أن يكون القائد الممكن والداعم.
كثيرًا ما يغري المنصب صاحبه، وخصوصًا حديثي العهد بالإدارة، وتجده يرفع رأسه فوق الآخرين، لا ليرى أبعد، بل ليتعالى. لكن الحقيقة التي يغفل عنها هؤلاء أن المنصب لا يمنح صاحبه قيمة بحد ذاته، بل هو من يمنح المنصب قيمة، وذلك في كيفية إدارته لفريقه وتطويرهم ودعمهم لإنجاح المنظومة ككل.
منصب القيادة ليس امتيازًا، بل هو تكليف. إنه مسؤولية خُلقية قبل أن يكون وظيفة تنظيمية. ومن يظن أن الكرسي يمنحه الهيبة، فليتأمل كيف أن الكرسي نفسه لا يبقى لأحد. ما أتاك اليوم قد رحل عن غيرك بالأمس، وبطبيعة الحال سيرحل عنك غدًا، فتلك سنة الحياة، وكما يقول المثل: "لو دامت لغيرك ما أتتك".
التواضع في القيادة ليس ضعفًا، بل هو أعلى درجات القوة. أن تكون قادرًا على فرض رأيك، ثم تختار أن تستمع وتناقش وتتعلم. أن تملك القرار، ولكن تعي قيمة الحوار. أن يذكرك الناس بالخير حين ترحل، لا أن يفرحوا برحيلك. هذه هي القيادة التي تترك أثرًا.
المدير المتواضع لا يكتفي بإدارة المهام، بل يصنع بيئة يتعلم فيها الفريق، وينمو، ويزدهر. هو من يُلهم الآخرين ليكونوا أفضل، لا ليشعروا بأنهم أقل. بل أبعد من ذلك، أن يتأكد من توظيف من هم أكفأ منه وأفضل منه في المجال، كي يضمن نجاح الإدارة كاملة، وتلك هي قمة الوعي والدهاء في القيادة.
حين يسأل أحدهم فريقك بعد سنوات: "كيف كانت تجربتكم معه؟"، فليكن الجواب: "تعلمنا منه كيف نكون قادة، لا مجرد موظفين ناجحين". هذا هو النجاح الحقيقي، أن تخلق قادة جددًا لا مجرد موظفين مبرمَجين على أن يكونوا تابعين.
وفي زمن تتسارع فيه المناصب وتشتد المنافسة فيه على الألقاب، يبقى التواضع هو العلامة الفارقة، فهو ما يجعل من المدير قائدًا، ومن القائد إنسانًا، ومن الإنسان ذكرى طيبة لا تُنسى.
ولأن النجاح لا يقاس بالشعارات بل بالممارسات اليومية البسيطة، فإليكم بعض العادات البسيطة كنت قد قرأتها في كتاب اسمه "مدير الدقيقة الواحدة"، وهو من أشهر كتب الإدارة العملية، وفيه يذكر الكاتب ثلاثة أمور مهمة لكل مدير/قائد أن يطبقها مع فريقه، منها نقطتان مهمتان جدًّا في فن القيادة الناجحة:
● ثناء الدقيقة الواحدة (One Minute Praising):
يشدد على أهمية تقديم الثناء الفوري والمحدد عند رؤية سلوك إيجابي. لا تنتظر التقييم السنوي لتخبر الموظف بجودة ما فعل، بل كن حاضرًا، فوريًا وكريمًا في التقدير. ركز على السلوك والنجاح الذي حدث، وأثره على العمل والفريق. ولا يجب أن يأخذ هذا الموضوع أكثر من دقيقة من الوقت، وقد يكون في لحظة عابرة خلال لقاء الموظف بالمصادفة.
● توبيخ الدقيقة الواحدة (One Minute Reprimands):
حين يحدث خطأ، يجب أن يُعالج بسرعة وبوضوح، دون إهانة أو تأخير. التوبيخ يكون للسلوك والخطأ الذي حدث، وليس للشخص، فالمسألة ليست شخصية. ويتبعه تأكيد على الثقة بقدرة الموظف على التحسن في المرات القادمة وتجنب الخطأ. وكما في الثناء، فلا يجب أن يأخذ هذا الموضوع أكثر من دقيقة من الوقت، وقد يكون في لحظة عابرة خلال لقاء الموظف بالمصادفة، وليس في تجمهر كبير أمام باقي الموظفين، فالهدف هو التعلم لا الإهانة العلنية.
"إن رغبتي في إتقان ما أقوم به من عمل لم تعنِ، قط، رغبتي في التفوق على أي إنسان آخر. كنت، ولا أزال، أرى أن هذا العالم يتسع لكل الناجحين، بالغًا ما بلغ عددهم. وكنت، ولا أزال، أرى أن أي نجاح لا يتحقق إلا بفشل الآخرين هو، في حقيقته، هزيمة ترتدي ثياب النصر". – الدكتور غازي القصيبي
