السقوط المدوي لإمبراطورية "سولت باي": كيف تحولت قصة نجاح عالمية إلى درس في سوء الإدارة؟
بين ليلة وضحاها تحول الشيف نصرت إلى "سولت باي". رشة ملح أسست لشهرة عالمية دفعته لفتح عشرات المطاعم حول العالم. إمبراطورية ضخمة ونجاح مذهل بني خلال سنوات قليلة.
ولكن، كما صعد إلى القمة بسرعة، سقط بنفس السرعة، فالانتقادات والفضائح بدأت تتولى، والمشكلات الحقت الضرر بسمعته، وتحولت المنتجات الباهظة من مصدر للإعجاب إلى موضع للسخرية والانتقاد والشكوى.
ورغم الفرص الكثيرة لتصحيح المسار والتعامل مع التحديات بحكمة أكبر، لم يتمكن الشيف من الحفاظ على هذه الإمبراطورية التي كان من المفترض أن تزدهر وتستمر.
من حكاية نجاح مذهلة إلى حالة تدرس في الفشل السريع، هناك عشرات الدروس التي يمكن تعلمها من السقوط المدوي لإمبراطورية اللحوم والملح.
رحلة الصعود: من متدرب جزار إلى ظاهرة عالمية
قصة نجاح "سولت باي" هي حكاية مذهلة عن لحظة إستثنائية، حولت جزارًا متواضعًا إلى ظاهرة عالمية.
بدأ "نصرت غوكجه" مسيرته المهنية متدرباً في محل جزارة في سن مبكرة، لمساعدة أسرته الفقيرة، وبعد سنوات من العمل الدؤوب، ورحلات تدريبية إلى الأرجنتين والولايات المتحدة الأمريكية، افتتح أول مطعم له "نصرت" في إسطنبول عام 2010، بعشر طاولات وعشرة موظفين.
وفي يناير 2017 انتشر فيديو قصير له بعنوان "ستيك عثماني"، يظهر أسلوبه الاستعراضي في تقطيع اللحم ورش الملح، ليصبح ظاهرة ويكتسب شهرة خرافية.
وهكذا بين ليلة وضحاها تحول إلى "سولت باي" صاحب رشة الملح المعروفة في كل بقاع الأرض.
استثمر نصرت هذه الشهرة لتوسيع علامته التجارية بسرعة، فافتتح 28 فرعاً في 7 دول، منها الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، السعودية والإمارات وغيرها، وأصبحت مطاعمه وجهة النجوم والأثرياء.
ومع تزايد شعبيته على الانترنت بأكثر من 50 مليون متابع، استخدم نصرت منصات التواصل لبناء شخصيته الاستعراضية وتعزيز علامته.
من الميم إلى السقوط: تفكك الإمبراطورية
بحول عام 2019 ، بدأت التصدعات تظهر في الواجهة اللامعة لإمبراطورية "سولت باي"، مع توالي الممارسات التي نالت من صورته، وقلصت ثقة الزبائن والموظفين به على حد السواء.
اتهم موظفون سابقون نصرت بسرقة الأجور، واقتطاع الإكراميات، والفصل التعسفي، وخلق بيئة عمل سامة، إضافة إلى دعاوى قضائية تتعلق بعدم دفع أجور الساعات الإضافية، وتحرش وتمييز على أساس الجنسية والجنس.
في ميامي، أثارت مطاعمه الجدل بسبب الفواتير المرتفعة جدًا، واستدعاء الشرطة للتعامل مع المعترضين، كما أثارت مواقفه السياسية الجدل وترافقت مع دعوات للمقاطعة، مثل تقديم شريحة لحم ذهبية للرئيس الفنزويلي، وسط أزمة غدائية حادة في البلاد.
الأخطاء التشغيلية زادت الطين بلة، فحادثة احتراق زبون في اسطنبول نتيجة استعراض النار، والتعامل غير الاحترافي مع الحادثة، وإغلاق مطعم بوسطن بسبب مخالفات بروتكولات "كوفيد"، عكست صورة لإدارة ضعيفة في وقت لم يكن الجمهور مستعداً للتسامح مع هكذا هفوات.
وحتى الطعام الذي كان يوماً جوهر العرض، أصبح موضع انتقاد، مع تفاوت كبير في جودة الخدمات بين الفروع، إذ وصفت بالجافة والقاسية وعديمة النكهة، وغير مملحة بما يكفي.
وفي نهائي كأس العالم 2022 ، أثار المزيد من الجدل، بعد خرقه البروتوكولات بدخوله الملعب وحمل كأس العالم مع فريق الأرجنتين، مما زاد من موجة الانتقادات لسلوكه وشخصه.
دروس من صعود وسقوط سولت باي
"سولت باي" يمثل منذ بداية شهرته وحتى السقوط، حالة تدرس، حول غياب إدارة الاعمال، فما هي الدروس التي يمكن تعلمها من فشل كان يمكن تفاديه؟
- الشهرة الفيروسية ليست نموذج عمل مستدامًا:
رغم نجاحه في تحويل شهرة الإنترنت إلى شهرة فعلية، وهو أمر لم يتمكن الكثيرين من القيام به، لم يثبت "نصرت" هذا النجاح بخطوات ثابتة.
وبينما يمكن للحظة فيروسية أن تسرع الشهرة، لكنها لا تكفي لضمان الاستمرارية، لذا يجب على الشركات بناء سمعة قوية من خلال تقديم جودة ثابتة، وقيمة حقيقة، وتجربة عملاء متسقة.
ولكن افتقاره للتميز التشغيلي، وعدم المحافظة على مستوى جودة مطاعمه بعد الانتشار الأولي، أدى إلى تراجع شعبيته سريعاً.
- جودة المنتج والخدمة يجب أن تتناسب مع السعر:
الأسعار المرتفعة تحتاج إلى جودة وقيمة حقيقة تبررها، فالتسعير المبالغ فيه دون جودة مرضية يضعف ثقة العملاء، ويلحق الضرر بسمعة العلامة.
وقد واجهت مطاعم سولت باي الكثير من الانتقاد، بسبب شرائح لحم أقل من المتوقع، وخطأ نصرت كان اعتقاده أن شهرته تبرر الفواتير الفلكية، بينما الحقيقة هي أن العملاء يدفعون بسخاء فقط إذا كانت التجربة تستحق ذلك.
- المعاملة الأخلاقية والعادلة للموظفين هامة جداً:
بيئة العمل السامة، وتقارير سرقة الأجور والتمييز تضر بالسمعة وتسبب مشاكل قانونية، فمعاملة الموظفين تؤثر إيجابياً على جودة الخدمة ودعم العلامة، وقد سلطت تجربته الضوء على خطر تجاهلها، إذ أدت إلي اضطرابات داخلية، أثرت على جودة الخدمة وأساءت إلي صورته وسمعته.
اقرأ أيضًا: دروس بيل جيتس في القيادة والإدارة: الاعتراف بالخطأ والتعلم منه
- مخاطر اختزال العلامة بصورة شخص واحد:
اختزال العلامة التجارية في شخصية واحدة، سواء المؤسس أو الوجه الاعلامي، يسرع من انتشارها، لكنه يحمل مخاطر كبيرة.
في حالة "سولت باي"، فإن اعتماده الكبير على شخصيته جعل كل تصرفاته تحت المجهر، وقد كشفت جانبًا من شخصيته التي وصفها البعض بالمتعجرفة، كما كشفت سوء إداراته عن ضعف العلامة، التي تم ربطها بالكامل بشخص واحد، لذلك من الضروري بناء هوية متوازنة لا تعتمد على فرد واحد.
- إدارة السمعة أمر حاسم:
حتى لو لم تكن المؤسسة مختزلة بشخص واحد فإن سلوكيات القادة العلنية تؤثر على صورة العلامة التجارية، فالتصرفات غير المهنية أو المثيرة للجدل قد تنفر العملاء والشركاء والزبائن.
وقد أظهرت تصرفات "سولت باي" حجم الضرر الذي يمكن أن تلحقه التصرفات الخاطئة بمؤسسة رغم نجاحها.
- الابتكار المستمر والتكيف ضرورة:
لا يمكن للعلامات التجارية الاستمرار على نجاحات سابقة فقط، لأن السوق وتوقعات العملاء في تطور دائم، لذلك، يتطلب الأمر ابتكاراً مستمراً في المنتجات والخدمات ونماذج التشغيل.
وقد فشل "سولت باي" في التكيف مع تغيرات السوق، مثل تأثير الجائحة، كما أن تزايد التدقيق على الجودة، ساهم بشكل كبير في تراجعه.
- الشفافية في التواصل لبناء الثقة:
عندما ظهرت النزاعات وقصص سوء المعاملة إلى العلن، تعامل "نصرت" وفريقه مع الوضع بشكل خاطئ عبر التجاهل، ما زاد الأزمة سوءاً.
فاعتماد الصراحة في المعالجة، ثم اتخاذ إجراءات تصحيحية ملموسة كان من الممكن أن يعيد ثقة العملاء ويبني المصداقية، فعلى الشركات مواجهة الانتقادات بوضوح بدلاً من تجاهلها أو محاولة قمعها.
- التوسع للعلامة التجارية يحتاج إلى تخطيط إستراتيجي:
التوسع السريع من دون أسس تشغيلية قوية، يؤدي إلى تفاوت في الجودة، وتحديات إدارية، واغلاق فروع.
وتوسع "سولت باي" العدواني في أسواق متعددة، دون ضمان تجربة موحدة، اضعفت العلامة التجارية، كما أن اختلاف الجودة والخدمة بين الفروع أربك العملاء وأضعف المؤسسة ككل.
- الاستعداد للأزمات وإدارة المخاطر:
من الواضح أن "نصرت" لم يكن يملك خططاً واضحة للتعامل مع الأزمات، وربما ظن أن شعبيته لن تتراجع.
والحقيقة أن نجاح الشركات يعتمد أيضًا على التخطيط للأسوأ، ووضع آليات للخروج من الأزمات، وقد كشفت تجربة مطاعمه ضعف أو غياب خطط إدارة المخاطر والاستجابة للأزمات.
