بين تأهيل الموظفين واستبدالهم... كيف تتخذ القرار الذي يرسم مستقبل شركتك؟
في عصر متسارع، تواجه الشركات تحديًا استراتيجيًّا لم يعد من الممكن تأجيله: هل تستثمر في تدريب موظفيها الحاليين ليكتسبوا مهارات جديدة، أم تتجه مباشرة إلى استقطاب كفاءات جاهزة من سوق العمل؟
فالتطورات التكنولوجية لم تغير شكل الوظائف فحسب، بل أعادت تعريفها وصياغتها بالكامل، وهو أمر تنبه له العالم خلال السنوات القليلة الماضية.
وقد دق تقرير المنتدى الاقتصادي لعام 2023 ناقوس الخطر، مشيراً إلى أن 47% من الموظفين سيحتاجون إلى إعادة تأهيل مهني بحلول عام 2027، بسبب الأتمتة والذكاء الاصطناعي.
وأصبحت الصورة أكثر وضوحًا في تقرير 2025، بسبب التطورات الهائلة في التكنولوجيا، التي قفزت معها النسب، إذ أشار التقرير إلى ضرورة اعادة تأهيل 59% من القوى العاملة بحلول 2030، وذلك بسبب تبدل 39% من المهارات المطلوبة حاليًّا.
إعادة تدريب الموظفين أم استبدالهم!
عندما تواجه الشركات تحديات التغيير، سواء بسبب التقنيات الجديدة أو دخول منافسين جدد لسوق العمل، فإن القيام بالتغيرات يصبح ضرورة، وهذا يعني إما اعادة التأهيل أو الاستبدال.
وعادة تلجأ الشركات إلى إعادة تأهيل الموظفين عندما يكون لديها فريق متمرس، يمتلك معرفة عميقة بمجال العمل، ولكنه يحتاج إلى تحديث مهاراته لمواكبة التكنولوجيا الحديثة أو المتطلبات الجديدة.
فإعادة التأهيل تسمح للشركة بالاحتفاظ بالخبرات المؤسسية، وتجنب تكاليف التوظيف العالية، كما تعزز ولاء الموظفين وترفع من معنوياتهم، ما يعني زيادة في الإنتاجية وحماسة لتقديم أقصى ما لديهم للمؤسسة التي تمسكت بهم.
هذا الخيار يكون مناسبًا عندما يمكن سد الفجوة في المهارات من خلال التدريب، وعندما يكون هناك ما يكفي من الوقت الذي يمكن تخصيصه للتدريب من دون التأثير على سير العمل.
أما عندما تكون الفجوة في المهارات كبيرة جدًّا، أو عندما تحتاج الشركة إلى مهارات متخصصة يصعب تدريب الموظفين الحاليين عليها بسرعة، فقد يكون خيار الاستبدال أكثر فاعلية.
فالاستبدال يتيح للشركة جلب خبرات جديدة بسرعة، ولكنه يحمل معه تكاليف عالية مثل التوظيف، والتدريب، وفترة التأقلم، بالإضافة إلى فقدان المعرفة المؤسسية التي يحملها الموظفون القدامى، كما أن استبدال الموظفين قد يؤثر سلبًا على الروح المعنوية للفريق، وبالتالي يؤثر على الأداء والانتاجية.
إعادة تدريب الموظفين: استثمار ذكي يجمع بين التوفير والابتكار
عندما تختار الشركات إعادة تأهيل موظيفها، فإنها تستثمر في تطوير مهاراتهم لمواكبة التغييرات السريعة في سوق العمل، خاصة مع انتشار تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والأتمتة وغيرها، وأرقام المنتدى الاقتصادي العالمي إن دلت على شيء، فإنها تؤكد حجم التغيرات الهائلة في سوق العمل.
هذا التحول دفع الشركات إلى الإدراك بأن اللحاق بالركب بات أولوية، وبين خيار توظيف مهارات جديدة وتدريب المهارات الحالية فإن 85%من أصحاب العمل يفضلون تطوير مهارات موظفيهم بدلاً من التوظيف الخارجي، وذلك وفق ما جاء في مقال "قاعدة الـ50%: لماذا يحتاج نصف الموظفين إلى إعادة تأهيل في العام ٢٠٢٥ – The 50% Rule: Why Half of All Workers Need Reskilling by 2025"، الذي أعدته شركة "ري سكيلز Reskills".
ومما لا شك فيه أن الإنفاق على إعادة تدريب الموظفين يجعل الشركات توظف مبالغ طائلة في هذه المجال، فعلى سبيل المثال، أنفقت الشركات في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها حوالى 101.8 مليار دولار على تدريب الموظفين خلال العامين الماضيين، وذلك وفق تقرير بعنوان: "كم تنفق الشركات لاعادة تأهيل الموظفين How Much do Companies Spend Training Employees"، الذي نشر في موقع "ليرن إكسبرتس Learn Experts".
وفي أوروبا، التي بدأت رحلة اعادة التدريب قبل عامين، ضمن مبادرة "الميثاق من أجل المهارات"، تم إستثمار 160مليون يورو لدعم تطور القوى العاملة، وبالإضافة إلى هذه التكاليف المباشرة، هناك أيضاً نفقات غير مباشرة ترتبط بالوقت الذي يمضيه الموظفون في التدريب بدلاً من العمل، والموارد اللازمة لتطوير برامج تعليمية مخصصة ودمج تقنيات جديدة.
ومع ذلك فإن الفوائد الإقتصادية لاعادة التدريب واضحة وكبيرة، فالشركات التي تركز على تطوير موظفيها تحقق دخلاً أعلى بنسبة 218% لكل موظف، وذلك وفق مقال نشرته شركة "ناير بونت إنترشونال" تحت عنوان "التأثير الأقتصادي لزيادة المهارات واعادة التدريب في 2025 وما بعده The Economic Impact of Upskilling & Reskilling in 2025 (and Beyond)"، كما أنها توفر بين 70 و92% من التكاليف عندما تختار تدريب موظفيها بدلاً من استبدالهم، وذلك وفق التقرير نفسه.
والسبب هو أن التوظيف الجديد لا يقتصر على الرواتب فقط، بل يشمل أيضًا تكاليف البحث والاختيار والتدريب الأولي، إضافة إلى فترة التأقلم التي قد تستعرق وقتًا طويلاً، مما يؤثر على الإنتاجية.
من الناحية الثقافية فإن برامج إعادة التأهيل المهنية تعزز من ولاء الموظفين والتزامهم تجاه الشركة، وحسب تقارير لموقع "لينكد إن Linked In"، فإن 94% من الموظفين يميلون إلى البقاء في شركات تستثمر في تطوير مهاراتهم، كما أن التدريب المستمر يزيد من الإنتاجية بنسبة تصل إلى 17% وذلك وفق بيانات "غالوب Galloup".
وبالتالي، فإن إعادة تدريب الموظفين ليست فقط خياراً تقنياً أو تعليمياً، بل استراتيجية اقتصادية ذكية تساعد الشركات على تقليل التكاليف، وزيادة الإنتاجية، والحفاظ على استقرار فريق العمل، في ظل بيئة عمل متغيرة باستمرار.
الاستبدال والتوظيف: بين الأعباء المالية والفوائد
رغم أن استبدال الموظفين قد يبدو حلاً سريعاً لسد فجوة المهارات، فإن الدراسات تكشف عن تكاليف عالية غالباً ما تفوق التوقعات، ففي تقرير صادر عن "أبلوز Applauz" عام 2025، أشار إلى أن تكلفة استبدال موظف واحد قد تترواح بين نصف إلى 4 أضعاف راتبه السنوي.
ولا تقتصر هذه التكاليف على المصاريف المباشرة فقط، بل تشمل التكاليف غير المباشرة مثل الوقت الذي يمضيه المديرون وفرق الموارد البشرية في عمليات البحث والاختيار، والتي قد تمثل نحو 60% من إجمالي التكلفة.
وبحسب تقرير "الجمعية الأمريكية لإدارة الموارد البشرية"، يبلغ متوسط تكلفة التوظيف نحو 4،700 دولار، ولكنها قد تتجاوز الـ 20،000 دولار للوظائف المتخصصة أو التنفيذية، هذا بالإضافة إلى تكاليف "خفية" يصعب حسابها بدقة، مثل الوقت والجهد الذي تبذله فرق الموارد البشرية.
أما على صعيد الإنتاجية، فيؤدي دوران الموظفين إلى خسائر كبيرة، حيث يقدر تقرير "أبلوز Applauz" خسائر الشركات الأمريكية بنحو 1،8 تريليون دولار سنوياً لهذا السبب.
كما تظهر دراسة استقصائية لشركة "اكسبرس ابلويمنت بروفاشيونال" في 2025، أن تكلفة دوران الموطفين تصل في المتوسط إلى 36،723 دولارًا سنوياً، فيما أفادر 34% من الشركات الكبرى التي يزيد عدد موظفيها على 500، إلى أن هذه التكاليف تتجاوز الـ 100،000 دولار سنوياً.
إلى جانب الأعباء المالية، يؤدي استبدال الموظفين إلى اضطرابات في سير العمل، نتيجة الحاجة إلى فترات تدريب وتأقلم للموظفين الجدد، والتي قد تنتهي أحيانًا بضرورة إعادة التوظيف من جديد.
ومع ذلك ورغم الخسائر المالية المرتبطة باستبدال الموظفين هناك إيجابيات لاستقطاب خبرات واردة جديدة، حيث يضيفون للشركة أفكاراً ومهارات جديدة تساعد على النمو وعلى التنافس.
كما أن ضخ الدماء الجديدة يسمح للشركات بسد الفجوات في المهارات، ما يعزز من فرصها في التنافس، من خلال المواهب والطاقة وتعزيز الابتكار وتحسين الأداء.
باختصار، إعادة التوظيف عملية مكلفة، وقد تتسبب باضطرابات تشغيلية، لكنها في المقابل قد تمنح الشركة فرصة للنمو والتجديد.
اقرأ أيضًا: مستثمرون: الإجازات المفتوحة للموظفين تُحفز الأسواق
متى يكون التوظيف ضرورياً رغم التكاليف المرتفعة؟
رغم ما يحمله استبدال الموظفين من تكاليف مالية وتشغيلية عالية، فإنه يصبح خياراً لا غنى عنه في حالات محددة منها:
- عندما تكون المهارات المطلوبة متخصصة أو تقنية للغاية، ولا يمكن للقوى العاملة الحالية اكتسابها بسرعة من خلال التدريب.
- إذا كان هناك حاجة ملحة إلى تطبيق استراتيجيات أو تقنيات جديدة تتطلب سرعة التنفيذ، بينما إعادة التدريب تحتاج إلى وقت أطول لا يتماشى مع متطلبات العمل.
- حين يكون الوقت اللازم لتوظيف ودمج موظفين جدد مقبولاً مقارنة بعملية إعادة التدريب الطويلة، خصوصاً في الوظائف بمناصب متقدمة أو للوظائف المتخصصة.
- عندما تمر الشركة بتحولات استراتيجية تتطلب قدرات جديدة غير موجودة لدى الموظفين الحاليين.
- عندما تكون هناك حاجة إلى وجهات نظر جديدة أو تقنيات مبتكرة أو أساليب جديدة ولا يمتلكها الموظفون الحاليون ولا يمكنك اكتسابها بسرعة.
التوظيف مقابل إعادة التدريب في العالم العربي
تشهد أسواق العمل العربية، وخاصة الخليجية، تحولات سريعة مدفوعة بالتحول الرقمي والأتمتة والذكاء الاصطناعي.
وفي عام 2023 أشار تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي، إلى أن نصف العاملين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سيحتاجون إلى إعادة تأهيل مهني بحلول 2025 للبقاء في سوق العمل.
وفي تقرير 2025 أشار إلى أن 63% من أصحاب العمل في المنطقة يرون أن فجوة المهارات تعد أكبر تحد لمستقبل أعمالهم، ما رفع التقديرات بضرورة إعادة تدريب تطوير مهارات نحو 59% من القوى العاملة بحلول 2030.
في هذا السياق، تميل معظم الشركات العربية خاصة في السعودية والإمارات إلى اعتماد إعادة التأهيل المهني كاستراتيجية حاسمة لمواجهة التحولات في سوق العمل، الناتج عن الأتمتة والذكاء الاصطناعي وتنويع الاقتصاد.
وفي السعودية هناك ما يشبه ثورة في إعادة التأهيل المهني لمواجهة هذه التحديات، خصوصاً مع تحول البلاد من الاقتصاد النفطي إلى الاقتصاد القائم على المعرفة.
وتركز المملكة العربية السعودية من خلال مبادراتها على التدريب المهني المستمر، لبناء قوى عاملة مرنة قادرة على النجاح في اقتصاد متنوع ضمن رؤية 2030.
وتبرز هنا مبادرات مثل "مهارات المستقبل"، التي أطلقتها وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، والتي تجمع بين معسكرات تدريبية وشراكات مع شركات محلية وعالمية لتزويد الشباب بالمهارات المطلوبة، كما تقدم شركات كبرى مثل "أرامكو" برامج تدريب متقدمة بشكل دائم.
وفي الإمارات يظهر تركيز مشابه على إعادة التأهيل المهني، من خلال مبادرات مثل "البرنامج الوطني للمبرمجين"، إلى جانب استمارات القطاعين العام والخاص في تدريب الكوادر على المهارات الرقمية والتكنولوجية، بهدف تعزيز مرونة سوق العمل واستدامة النمو.
في النهاية، يعتمد الاختيار بين إعادة التأهيل والتوظيف الخارجي على طبيعة القطاع، سرعة التحول المطلوب وحجم نجوم المهارات.
بعض الشركات تدمج بين المقاربتين مع التركيز على إعادة التأهيل لكونها الخيار الأمثل لكونها تضمن الاستدامة مع نتائج أفضل.
