ظاهرة بادر ماينهوف.. كيف ينتقي عقلك ما يريدك أن تراه؟
هل سمعت أُغنية جديدة أو تعلّمت كلمة جديدة، وفجأة يبدو كما لو أنّك تسمعها أو تراها في كل مكان من حولك، كأنّها فجأة باتت موجودة في كل مكان وشائعة بينما لم تكُن كذلك من قبل؟!
قد تظنّ ذلك حقًا، لكن ألا يمكِن أن يكون عقلك يخدعك؟ ثمّة ظاهرة تُعرَف بـ"ظاهرة بادر ماينهوف" أو "وهم التكرار"، إذ نظنّ أنّ الأمر صار أكثر شيوعًا أو موجودًا من حولنا، في حين أنّنا فقط قد انتبهنا إليه للتوّ، وصار الدماغ أكثر وعيًا به، فأصبح يُركِّز عليه أكثر من غيره، فنتوهّم أنّ هذا الشيء شائع أو موجود بكثرة، والحقيقة أنّه ليس كذلك، فلماذا تحدث هذه الظاهرة؟ وكيف تتحكّم في وعيك وقراراتك من دون أن تشعر؟
ما هي متلازمة بادر ماينهوف؟
تخيّل أنّك قررت الأسبوع الماضي أن تشتري سيارة حمراء، ثُمّ الآن في كل مرة تدخل موقفًا للسيارات، تجد نفسك محاطًا بالسيارات الحمراء.
الحقيقة أنّه لم يزدد عدد السيارات الحمراء فجأة، كما لم يخرج الآخرون لشراء سيارات حمراء لإرباكك، بل كل ما في الأمر أنّه منذ أن اتّخذت القرار، بدأ عقلك ينجذب إلى السيارات الحمراء، أو أنّ وعيه بها قد ازداد.
فظاهرة بادر ماينهوف أو وهم التكرار، هي أنّك ترى شيئًا ما عِدّة مرات، ثُمّ تبدأ بملاحظته أكثر، ثُمّ تبدأ في إيجاد طرق لتأكيد أنّه الحقيقة الوحيدة.
فقد تشعر وكأنّ الشيء يحدث بمُعدّل أكثر تكرارًا، بينما في الواقع، أنت فقط أصبحت أكثر وعيًا به.
لماذا تحدث ظاهرة بادر ماينهوف؟
تسلّلت إلى حياتنا ظاهرة بادر ماينهوف، وغالبًا لا ندرك حدوثها. فقط تخيّل كل ما تمرّ به في يوم واحد، فمن المستحيل استيعاب كل التفاصيل.
لكن لدى عقلك مهمة تحديد الأشياء التي تتطلّب التركيز والأخرى التي يجب تصفيتها، إذ يمكِن لعقلك بسهولة أن يتجاهل المعلومات التي لا تبدو ذات أهمية كبيرة في تلك اللحظة، وهو ما يفعله كل يوم.
عندما تتعرّض لمعلومات جديدة، خاصةً إذا وجدتها مُثِيرة للاهتمام، فإنّ عقلك ينتبه إليها، ومن المحتمل أن تكون محط التركيز والانتباه لفترةٍ من الوقت.
يشرح الدكتور "أليكس ديميتريو"، الحاصل على شهادة البورد المزدوج في الطب النفسي وطب النوم ومؤسس مركز مينلو بارك للطب النفسي وطب النوم، ظاهرة بادر ماينهوف، بأنّها تتضمّن:
- تحيّز التكرار: تتعلّم شيئًا جديدًا، وتلاحِظه في كل مكان من حولك.
- تحيّز الاختيار: تُركِّز أكثر على الشيء الجديد الذي تعلمته، وتتجاهل الحالات الأخرى التي لا تراه فيها.
- التحيّز التأكيدي: تتوقّع رؤية الشيء الجديد أكثر، وعندما تفعل ذلك، فإنّه يُؤكِّد اعتقادك بأنّه أكثر شيوعًا وأهمية، مما يعزِّز هذه الحلقة، بل قد يؤثِّر هذا في كيفية رؤيتك للعالم من حولك والقرارات التي تتخذها.
أمثلة واقعية على ظاهرة بادر ماينهوف
ثمّة بعض الأمثلة من الحياة الواقعية على ظاهرة بادر ماينهوف:
1. شراء سيارة جديدة
إن كُنت تتسوّق لشراء سيارة معينة، فقد تلاحظ وجود سيارات مثلها كثيرًا على الطريق، وهذا يحدث بسبب ما يُعرَف بـ"الاهتمام الانتقائي"، إذ يبدأ عقلك في ملاحظة الشيء الذي كُنت تفكّر فيه أكثر، بينما يتجاهل أشياء أخرى، لذلك يبدو أنّك ترى مزيدًا مما كُنت تفكّر فيه.
اقرأ أيضًا:كيف يُسيّرك عقلك؟ هكذا يعمل الدماغ البشري
2. الموضة
مثلا عندما ترى ما يتعلّق بالموضة أو بنمط جديد من الملابس، ثُمّ تشتريه، وتراه (بشكلٍ انتقائي) في كل مكان، ثُمّ تفكّر وتظنّ أنّ الجميع يفعلون ذلك، في حين أنّ الواقع ليس كذلك.
المفاهيم الخاطئة المرتبطة بظاهرة بادر ماينهوف
قد تظنّ أنّ هناك مبالغة بشأن أنّ ما تراه يتكرّر فقط لأنّك لاحظته وبدأ يشدّ انتباهك، وربّما تصرّ على أنّ هذا الشيء جديد أو أنّه صار أكثر شيوعًا بالفعل أو أنّ ذلك من باب الصدفة، لذلك فيما يلي تفكيك بعض المفاهيم الخاطئة المرتبطة بالظاهرة:
1. أن يكون الشيء أكثر شيوعًا
في الواقع، ما تلاحظه كان موجودًا بالفعل، حتى لو لم تكُن على دراية به في ذلك الوقت، وبملاحظته والتركيز عليه بشكلٍ أكبر، فقد تراه أكثر شيوعًا مما هو عليه في الواقع، وتعزِّز هذه السردية.
2. أنّه جديد
يسهل الوقوع في فخ الاعتقاد بأنّ هذا يحدث فقط عندما يكون شيئًا جديدًا. مع ذلك، ليست الأمور الحديثة فقط هي التي تجعلنا نلاحظ الأشياء ونحاول فهم الأنماط والمعاني، بل يمكِن لأي شيءٍ أن يتأثّر بتحيّز التكرار -سبق ذكره-، وكلّ ما يتطلبه الأمر هو بعض الاهتمام المُتجدِّد.
3. المصادفة
هناك أيضًا ميل إلى الخلط بين ظاهرة بادر ماينهوف والمصادفة، لكن الحقيقة أنّ الظاهرة متعلِّقة أكثر بكيفية إدراكك للأشياء وليس بالصدفة، فالدماغ أصبح أكثر تركيزًا على أشياء معيّنة، مكتشفًا للأنماط فيها، حتى لو لم يكُن فيها معنى حقيقي.
اقرأ أيضًا:التحيّز التأكيدي.. كيف نخدع أنفسنا لنصدق ما نريد تصديقه فقط؟
خطورة ظاهرة بادر ماينهوف على الوعي واتخاذ القرارات
من الضروري أن تعرف كيف تحدث هذه الظاهرة في العقل، لأنّها قد تجعلك لا ترى الأمور التي تحدث من حولك بموضوعية.
فالدماغ "يفلتر" المعلومات باستمرار حتى تتمكّن من استخدام موارده، لتحديد أولوياتك، وعمليات "الفلترة" تلك تجعل الأمور أسهل للفهم وأقل إرهاقًا، ولكنّها قد تتسبّب أيضًا في تجاهُل بعض المعلومات أو جعل تفسيراتنا متحيّزة للأمور وغير موضوعية.
وقد يؤثر هذا في كل شيء، بدءًا من تشكيل آرائنا وصولا إلى طريقة اتخاذنا للقرارات. فمثلا، عندما تبدأ بالبحث عن موضوع معين، ستجد نفسك تلاحظه في كل مكان. وبمجرد أن يلتصق هذا الموضوع بعقلك، يبدو أكثر شيوعًا، مما يؤثر لاحقًا على آرائك، تصوراتك، واختياراتك لما تعتبره "طبيعيًا".
ويمكن أن يُسهِم تصور التكرار في أمرٍ ما بما يُسمّى "تأثير الحقيقية الوهمية"، ففي الأساس غالبًا ما يُنظر إلى المعلومات المتكررة على أنّها أصدق من المعلومات الجديدة، حسب دراسة عام 2021 في دورية "Cognitive Research: Principles and implications".
هل يمكن السيطرة على ظاهرة بادر ماينهوف أو تجنّبها؟
بدايةً، لا بد من الوعي بظاهرة بادر ماينهوف، فهذا قد يساعدك على اتخاذ خطوات لازمة لتقليل التحيّز، ولكن لا تُوجَد طريقة لإيقافها تمامًا فهي جزء من كيفية عمل دماغك، بل قد تكون مفيدة بالفعل في بعض الحالات، وتسمح لك بتركيز الانتباه ومراقبة الأنماط وتعلّم أشياء جديدة.
فمثلا يقترح الباحثون أنّها يمكن أن تكون بمثابة أداة تعليمية مهمة في السياقات الطبية، وبمجرّد أن يصبِح المتخصّصون في المجال الطبي أكثر وعيًا بأعراض حالة نادرة، فإنّ ظاهرة بادر ماينهوف، قد تساعدهم في التعرف إليها بشكل أفضل عندما يواجهونها.
إليك في الآتي بعض النصائح التي تساعد في تجنّب وهم التكرار وتحيّز التفكير:
1. ارصد الظاهرة وقت حدوثها
إذا كان شيء ما بدأت تلاحظه في كل مكان من حولك، فخُذ خطوة إلى الخلف ولاحِظ متى يحدث ذلك، وسلْ نفسك، هل هذا الشيء تعلّمته للتو؟ هل كُنت تفكّر في هذا الأمر أكثر؟ هل هو أكثر شيوعًا حقًا أم أنّك صِرت أكثر تركيزًا وملاحظة له؟ هذا قد يساعد على إيضاح الأمر بالنسبة لك.
2. حافظ على ذهنك منفتحًا
يميل الناس إلى أن يكونوا أكثر انفتاحًا عندما يتعلّمون لأول مرة عن موضوعٍ ما، لكنّهم غالبًا ما يُركِّزون بعد ذلك على فكرة واحدة، يعتقدون أنّها صحيحة (حتى لو لم تكُن كذلك).
لذلك من المهم أن تحافظ على عقلك منفتحًا على الآراء والبيانات المختلفة، لمعرفة الأمر بشكلٍ واضح وكامل، قبل التحيّز لفكرة مُعيّنة.
3. تحقّق من مصادرك
إن كُنت تحصل على معلوماتك من مصدرٍ واحد فقط، ففكِّر في التوسّع والبحث عن مصادر أخرى.
فإذا كُنت تعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي مثلا بشكلٍ حصري، فهي قد تُسهِم في وهم التكرار، إذ بمجرد أن تُظهِر اهتمامك بموضوعٍ ما، ستبدأ الخوارزميات في تقديم مزيدٍ من نفس المحتوى، فتظنّ أنّه شائع، لذلك يجب التحقق من مصادرك والاعتماد على مصادر مختلفة وليس مصدرًا واحدًا.
وكُلّما أمكن ذلك، ابحث عن بيانات موضوعية، تساعد في تأكيد أو دحض ما إذا كان شيء ما أكثر شيوعًا بالفعل، واستمِرّ في طرح الأسئلة وكُن فضوليًا، وابحث عن الموضوع من مواقع ذات سُمعة جيّدة.
