في حضرة التاريخ.. نحتفي بالمستقبل: "عزنا بطبعنا" استكشف إرث المملكة في يومها الوطني
اليوم الوطني السعودي ليس مجرد مناسبة لرفع راية تستحق أن تعلو للسماء فحسب، ولكنها فرصة كذلك للوقوف وتذكر ما صنعه الرجال، عندما صاغوا الحلم وآمنوا به حتى صار واقعًا نعيشه، ونتباهى بظله الممدود فوق ربوعنا. إنها مناسبة لتأمل تاريخ راية خفاقة رفعتها عزائم لا تلين، ويوم لا نحتفل فيه بما وصلنا إليه فحسب، بل، كيف وصلنا؟
فما بين نسائم الدرعية وصمود المصمك وصفاء المُربع تطورت القصة، التي بدأت منذ قرون طويلة فخُلدت على صخور الحِجر، إنها هيبة التاريخ، التي تسكن حكايات تحكي لنا من نكون، وتُذكرنا بأن الطريق إلى رؤية 2030 مرّ من هنا، من جذور ضاربة في عمق الأرض.
ومن ثم فإن زيارة هذه الأماكن التاريخية في هذا اليوم ليست نزهة عابرة، بل هي احتفال واعٍ بالماضي، وتأمل صادق للحاضر، واستشراف حكيم للمستقبل، ففي حضرة التاريخ، تُولد أصدق لحظات الفخر، وبينما نحتفي بالمستقبل، يجب أن نردد بثقة: "عزّنا بطبعنا".
الدرعية
تاريخ يُروى وحضور لا يغيب
تتباهى الدرعية بتفردٍ يضعها في مكانةٍ خاصة، إذ جمعت بتميزٍ شديد ما يشبه الملخص الأنيق لماضي وحاضر ومستقبل المملكة، ولعل جولة بين أرجائها الساحرة ستكون كفيلة بأن تدرك حجم الإنجاز الذي تحقق، بينما تقف على معاني الإخلاص والتحدي والإصرار، تلك المعاني التي آمن بها رجال صنعوا الحلم فأبدعوا.
وبينما نحتفل باليوم الوطني، تبرز هذه البقعة الغالية كواحدةٍ من أهم المواقع التاريخية في السعودية، بما تكشفه من خلال أحيائها ومعالمها التراثية ومقوماتها الفريدة عن تاريخ المملكة العريق، وكيف انطلق الحلم من مهد التأسيس.
وبعيدًا عن موقعها الاستراتيجي المميز شمال غربي مدينة الرياض، على ضفاف وادي حنيفة، تزدان الدرعية ويزداد بهاؤها بذلك المستوى العالمي الذي وصلت إليه كمعلم ثقافي بارز، يحتضن التاريخ، ومن ثم تمكنك من استكشافه بالتجول بين معالمها الساحرة.
في المقدمة يبرز حي الطريف، الذي يعد من أقدم الأحياء في الرياض، فيما يشتهر بمنازله الطينية التقليدية والهندسة المعمارية النجدية والإسلامية القديمة، ومبانيه التاريخية التي تعود إلى فترة الدولة السعودية الأولى، ومن ثم فإن التجول بين أزقته الضيقة سيمكنك من استكشاف الحياة القديمة، في مكان فريد سُجل ضمن قائمة التراث العالمي بمنظمة اليونسكو.
بينما يستقبلك قصر سلوى في الواجهة الشمالية من الحي، إذ يتربع على مساحة 10 آلاف متر مربع، ليعلن عن نفسه كأحد أبرز المعالم العريقة، وأحد شواهد الحي على تاريخ تأسيس الدولة السعودية الأولى، حيث شيد على يد الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود، ليكون مقرًّا للحكم، فيما اتخذ اسمه من عمارته متعددة المنافع، التي جعلته سلوى لساكنيه وزواره.
وفي الداخل يمكنك استكشاف متحف الدرعية، الذي يضم مخطوطات وقطعًا أثرية وعروضًا توضح تاريخ الدولة السعودية الأولى وتطورها، فيما ينتشر بالقرب من القصر عدد من المباني التاريخية، كبيت المال، ومتحف الحياة الاجتماعية، ومتحف الخيل العربية، والساحة المفتوحة لاستقبال الزوار وصولًا إلى مسجد الطريف.
الرياض
المصمك... من هنا بدأت الحكاية
نعود للرياض، حيث ينتصب قصر المصمك شامخًا وسط المدينة، تدهشك مهابته وامتداد روعته، حيث تحول إلى وجهة سياحية شاهدة على تاريخ تأسيس المملكة العربية السعودية، فقد بُني القصر في عهد الإمام عبدالله بن فيصل، وكان مسكنًا له، وبيتًا للحكم والمال.
وقد روعي في بناء القصر أن يكون حصنًا منيعًا، وهو ما يدل عليه متانة جدرانه وارتفاعها، وغياب النوافذ والفتحات، سوى مدخلين ومنافذ صغيرة تتسع لفوهات البنادق وقت المعارك، بينما تدل لفظة "المصمك" أو "المسمك" على البناء السميك الحصين، وقد استخدم هذا الحصن كذلك مستودعًا للأسلحة والذخيرة، حتى تقرر تحويله إلى معلم تاريخي ثم إلى متحف.
ويضم القصر صورًا حية لقصة توحيد المملكة، بما في ذلك آثار معركة استرداد الرياض، فيما قُسم المتحف إلى 6 أجزاء رئيسة تضم محتوياته الأساسية: بوابة القصر من الجهة الغربية، والمسجد، والمجلس، والبئر في الجهة الشمالية الشرقية منه، والأبراج التي تتوزع على أركان الفناء الأربعة، والوحدات السكنية التي كانت محل إقامة الحاكم وضيوفه ثم حوّلت إلى قاعات للعرض، لتحكي تاريخًا كاملًا من خلال العروض المرئية والقطع التراثية المعروضة على جدرانه.
يبرز قصر المربَّع تطور المشهد، ويكمل جانبًا من القصة، إذ يمثل نافذةً على ماضي الرياض وذاكرتها العريقة، فالقصر المتربع على مساحة 1680 مترًا مربعًا يفيض بذاكرة ثرية عن الأحداث التاريخية التي عاصرها، والمجد الذي صنع على أرضه.
والبداية عندما أمر الملك الراحل عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية، بتشييده على بعد كيلومترين تقريبًا من الرياض القديمة، تماشيًا مع تطور المدينة وتوسعها آنذاك، حيث أُسس على شكل مدينة مصغرة تحوي عدة مبانٍ، وانتقل الملك للعيش فيه عام 1939م ليكون مقرًا للسكن والحكم وتصريف شؤون الدولة، وديوانًا يستقبل فيه زعماء ورؤساء العالم.
ويتميز القصر بتصميم الفناء الداخلي الذي يتوسطه، والذي تطل عليه جميع الغرف الـ32 الموزعة على طابقين، حيث بني بالطريقة السائدة آنذاك، فيما وضعت البيئة المحيطة بصمتها في مواد البناء، إذ غُطّيت الغرف وأسقفها بجذوع الأثل، وزيّنت بجريد النخل وسعفه، وأنشئت قواعده من الحجر، وجدرانه من الطوب اللبن المخلوط بالقش، مع نقوش وزخارف مطبوعة على الجص، فيما برزت جمالياته في الأعمدة المتعرجة الحاملة لغرفه وممراته.
وقد اتخذ القصر اسمه من التصميم، حيث يتميز ببناء مربع الشكل محاط بالأسوار، في تجسيد لطبيعة المجتمع المحلي الذي يحافظ على خصوصية المنازل، بالإضافة لتصاميم مجالس استقبال ضيوف الملك، والمكاتب الإدارية المختلفة.
اقرأ أيضًا: وجهات سرية للأثرياء.. مغامرات فاخرة بعيدًا عن المقاصد الشهيرة
العُلا
حيث التاريخ نقشٌ بين الجبال
بينما تصحبك الدرعية إلى بدايات التأسيس، تأخذك العُلا إلى عمق التاريخ لما هو أبعد، بموقعها المتميز في صحراء الشمال الغربي، حيث تغوص بين شواهد حضارة تمتد لـ7000 سنة، تؤطرها تكوينات صخرية مذهلة وإبداعات بشرية طوعت الطبيعة بسحرٍ متقن.
وهنا يمكنك الاستمتاع بالحِجر، أول موقع في المملكة العربية السعودية يدرج على لائحة اليونسكو للتراث العالمي، بينما تستكشف ما يزيد على 110 من المقابر النبطية المنحوتة بإبداع في الصخور، وفي مقدمتها "مقبرة لحيان بن كوزا"، بتفاصيلها الأثرية المذهلة، والتي يصل ارتفاعها إلى 22 مترًا، بينما يضم جبل البنات أكبر مجموعة من هذه الشواهد، 29 مقبرة أثرية لنساء وفتيات أمرن بحفرها، فيما يضم موقع الجبل الأحمر 18 مقبرة أخرى تزينها الصخور بلونها الدامي.
بينما يقع جبل أثلب في النصف الشرقي من الموقع الأثري، ليعرض تشكيلًا صخريًا من إبداع الطبيعة، تفصل بين تكويناته الشقوق المهيبة والممرات الخلابة، فيما يضم قاعة الديوان الشهيرة التي نُحتت في صخوره منذ قديم الزمان، لتستضيف المأدبات والاجتماعات الملكية في زمنها.
ولا يتوقف سحر العُلا هنا، إذ تمتد التكوينات الصخرية المبدعة كصخرة الفيل بارتفاعها البالغ 52 مترًا، وواحاتها الخضراء الغنية بالنخيل وبلدتها القديمة، ومبانيها التراثية التي تتباهى بتفاصيلها، بدءًا من متاجرها وميادينها المزدحمة، مرورًا بشوارعها التي تشبه المتاهة وحصنها وواديها الآسر، وغيرها الكثير والكثير، الذي أهلها لاستحقاق جائزة أفضل قرية سياحية من قبل منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة.
بينما لا تخبو أنشطة العُلا الإبداعية، التي تتعدد وتتنوع على مدار العام، والتي تقدم مزيجًا مذهلًا من الاستمتاع بالطبيعة مع التأمل والاسترخاء، والغوص في الثقافة والفنون والترفيه، مع خوض تجارب استثنائية لا تُضاهى.
