إدارة الطاقة لا الوقت.. استراتيجية رواد الأعمال لتجاوز الاحتراق الوظيفي
لم يعد مصطلح "الاحتراق الوظيفي/النفسي Burnout" غريبًا على مسامعنا، خاصة مع كثرة الحديث عنه وزيادة عدد المتأثرين به، فهذه الحالة التي تُصيب الموظفين والمديرين التنفيذيين على حدٍ سواء، يمكن أن تصيب كذلك حتى العاطلين عن العمل، بغض النظر عن وجود كلمة "الوظيفي" في المصطلح، إذ قد تنتج هذه الحالة عن ضغوطات الحياة الشخصية أيضًا.
وقد تناولنا الاحتراق الوظيفي بشكلٍ عام في تقاريرٍ سابقة، واليوم نتطرق له مرة أخرى، ولكن مع التركيز على المديرين التنفيذيين ومؤسسي المشاريع، لنتعرف على هذه الحالة، وعلامات الإرهاق المبكر عند مؤسسي الأعمال، وكيف تدير طاقتك؟
ماذا يُقصد بالاحتراق الوظيفي Burnout بالضبط؟
الاحتراق الوظيفي هي تلك الحالة التي لا نكون فيها قادرين على العطاء، البعض يُطلق عليها "الإرهاق النفسي"، وذلك لأنها شكلٌ من أشكال الإرهاق فعلًا، لكنها مرحلة متقدمة أكبر من أن توصف بالإرهاق، ففيها يصل الشخص لمرحلةٍ من الاحتراق الجسدي والعاطفي والذهني، بعد فترة من التراكمات.
وعادةً ما يرتبط الاحتراق الوظيفي بالعمل، لكنه قد يحدث للعاطلين أيضًا، وذلك لأسبابٍ مختلفة منها التوتر المستمر، وقلة التقدير والاهتمام، والإنهاك المستمر والعمل لساعات طويلة دون راحة، وغيرها من الأسباب الأخرى.
من الناحية الطبية، ليس هناك مرضٌ يسمى "الاحتراق الوظيفي"، لكن ذلك لا يقلل من أثر هذه الحالة المدمرة على صحة الإنسان، صحيحٌ أنه لا يصل لمرحلة الاكتئاب، لكنه يظل مُهلكًا للصحة، ويمكن أن يؤدي إلى انهاء الحياة في بعض الحالات.
وعلى سيرة الاكتئاب، فالفرق بين الاحتراق الوظيفي Burnout والاكتئاب Depression واضح؛ الحالة الأولى عادةً ما تكون متعلقة بجانبٍ واحد من حياة الفرد (عمله في الغالب)، في حين أن الاكتئاب يؤثر على حياة الإنسان برمتها.
كذلك يمكن علاج مشكلة الاحتراق الوظيفي بالراحة أو الابتعاد عن الشيء المسبب لفترة، في حين يتطلب الاكتئاب تدخلًا دوائيًا أو علاجًا نفسيًا.
أنواع الاحتراق الوظيفي
1. الاحتراق الوظيفي بسبب العمل Overload Burnout:
يحدث عندما يحول الإنسان نفسه، أو يحوله مديره، إلى آلةٍ لا تتوقف عن العمل، آلة تبحث عن النجاح وتقودها النتائج، مهملة أي اعتبارات أخرى، وقد يؤتي هذا النوع ثماره -من حيث النتائج- في البداية، لكنه سرعان ما يُثبّط الإنسان وينقلب ضده، ليعجزه عن العمل من الأساس.
2. الاحتراق الوظيفي الناتج عن قلة التقدير Under-challenged Burnout:
لا يحدث هذا النوع عندما يتم تهميش مهامك باستمرار فحسب، بل عندما يتحول العمل إلى شيء روتيني ممل لا مجال فيه للتطوير، وإذا كان عملك لا يحفزك ولا يساعدك على التطور، فربما من الأفضل أن تتركه قبل أن تحترق وظيفيًا.
3. الاحتراق الوظيفي بسبب الشعور بعدم الأهلية Neglect Burnout:
هنا تشعر أن دورك في العمل ليس مهمًا، وعندما لا تسير الأمور بالطريقة التي أردتها، فتشعر أنك غير كُفء وتُصاب بـ "متلازمة المحتال Imposter Syndrome"، والتي تجعلك تُشكك بقدراتك أو إنجازاتك.
4. الاحتراق الوظيفي المستمر Habitual Burnout:
أخطر الأنواع على الإطلاق، ويحدث عندما تُصبح مرهقًا جسديًا ونفسيًا باستمرار، فتشعر بالحزن الدائم، وتبدأ سلوكياتك تتغير، ويُقال إن هذا النوع هو الأخطر لأنه قد يتطور إلى اكتئاب أو يولّد أفكارًا انتحارية، إذا وصلت إلى هذه المرحلة، أو شعرت أنك قد تصل إليها، فلا مفر من طلب المساعدة فورًا.
اقرأ أيضًا: التوظيف المدعوم بالذكاء الاصطناعي: دليلك للتغلب على الخوارزميات
علامات الإرهاق المبكر عند مؤسسي الأعمال
استكمالًا لما سبق، فإن أول خطوة في التعامل مع الإرهاق ليست تجنبه، بل اكتشافه في مراحله الأولى، وذلك لأنه لا يحدث فجأة، بل يتكون تدريجيًا، أحيانًا في صورة أعراض صغيرة لا تلفت انتباه أحد. ومن أشهر الأعراض:
1. إرهاق مستمر، لا يتحسن مع النوم أو الراحة:
تستيقظ في الصباح وكأنك لم تنم أصلًا، مهما حاولت تعويض الساعات التي فاتتك في نهاية الأسبوع.
2. تحول المهام اليومية إلى عبءٍ ثقيل:
المهام التي كنت تتعامل معها تلقائيًا أصبحت فجأة شديدة الصعوبة، حتى اتخاذ القرارات البسيطة يستهلك طاقة ذهنية غير مبررة.
3. الانفصال العاطفي أو النفسي عن العمل:
تنظر نظرةً منزوعة المعنى لأي شيء، كل إنجازٍ تراه صغيرًا مهما كان حجمه، وبالتأكيد لا يسلم فريقك أو المشاريع التي ينجزها من هذه النظرة التشاؤمية.
4. الإحساس بالدونية:
ليس تواضعًا، وإنما بأنك مهما فعلت ومهما استثمرت من وقتك وطاقتك، فلن تحقق شيئًا يُذكر (النوع الثالث من الاحتراق الوظيفي).
5. التغيرات الجسدية غير المبررة:
تُصاب بصداعٍ مستمر وآلام عضلية واضطراب في الهضم أو حتى في تغير الشهية والنوم بشكلٍ مزمن، وقد تُصاب بأمراض وتغيرات عامة ليس لها أي تفسير.
6. العزلة والابتعاد عن الناس:
تبدأ في تجنب الاجتماعات والاختلاط حتى بأصدقائك أو بعائلتك، وتتخذ من ضغط العمل مبررًا بشكل دائم.
كيف تدير طاقتك بدلًا من وقتك؟
المفهوم التقليدي لإدارة الوقت فقد فاعليته في عالم ريادة الأعمال الحالي، ومن ثم فإن من الأفضل الحديث عن إدارة الطاقة، لأن كمية الطاقة التي تملكها يوميًا هي المورد الحقيقي النادر، وليست الساعات.
1. حدد متى تكون في قمة طاقتك واستثمرها في الأهم:
هناك أوقات في اليوم تشعر فيها أنك في أفضل حالاتك، وبالنسبة لبعض المؤسسين، الصباح الباكر هو فترة التركيز، بالنسبة لآخرين تكون الساعات الهادئة في المساء هي الأفضل.
رتب جدولك بحيث تخصص هذه الفترات للمهام الاستراتيجية أو الإبداعية التي تحتاج حضورًا ذهنيًا كاملًا، واترك المهام الروتينية أو الإدارية للفترات الأقل نشاطًا.
2. تعلم قول "لا" بذكاء:
إدارة الطاقة تعني أيضًا حماية نفسك من المهام والأشخاص الذين يستنزفونك، فإذا كنت مدير نفسك، فأنت المسؤول عن تصفية الضغوط غير الضرورية، ومن ثم ليس عليك حضور كل اجتماع، ولا متابعة كل التفاصيل.
فكل "لا" صحيحة تمنحك فرصة لأن تقول "نعم" لما هو أكثر أهمية بالفعل، ومن حسن الحظ أننا نتحدث عن المديرين والمؤسسين هنا، لأن فرص قولهم "لا" أكبر من الموظفين العاديين.
3. مارس أنشطة تجدد الطاقة الذهنية والجسدية باستمرار:
لا تدع يومك يخلو من أنشطة خارج الروتين، فرياضة بسيطة مثل المشي، أو تمارين التأمل القصير، أو حتى متابعة محتوى إيجابي عبر قراءة أو بودكاست، كلها تعيد شحن بطاريتك الداخلية، فاجعل هذه الأنشطة عادات ثابتة، وليست حلولًا وقت الأزمات فقط.
4. لا تترك المشاعر السلبية تتراكم:
إدارة الطاقة الذهنية لا تتعلق فقط بالجسد، بل بمراقبة الأفكار السلبية التي تتحول تدريجيًا إلى تشاؤم دائم أو شعور بالعجز.
إذا لاحظت نفسك في حالة دائمة من السلبية، تحدث مع صديق، أو معالج نفسي إن لزم الأمر، فأحيانًا مجرد مشاركة القلق بصوت مرتفع كفيلة بتخفيف الحمل.
5. كن مستعدًا لإعادة ترتيب حياتك عند الحاجة:
الإرهاق المزمن علامة على أن النظام الحالي لحياتك لا يعمل، بدلاً من المكابرة والاستمرار، كن جريئًا في مراجعة خياراتك: ربما تحتاج لتغيير نمط عملك، أو إعادة توزيع المهام في فريقك، أو حتى قضاء إجازة طويلة لإعادة الشحن.
الأهم أن تدرك أن مرونتك وقدرتك على اتخاذ قرارات مصيرية هي مصدر قوتك الحقيقي.
اقرأ أيضًا: تصور مختلف لتحقيق الرضا الوظيفي.. نظرية "الوظائف التي يجب إنجازها"
جدول يومي واقعي يحميك من الانهيار
دعونا نتفق على أنه "لا يوجد جدول مثالي" يناسب الجميع، لكن هناك مبادئ يمكن لأي مؤسس أن يستند إليها، ليكون يومه واقعيًا ويحقق التوازن بين العمل والحياة، وهذه بعض النقاط التي يجب أن تحرص عليها في هذا الشأن.
1. ضع حدودًا واضحة بين عملك وحياتك الشخصية:
من أكبر الأخطاء التي يقع فيها المؤسسون تداخل كل تفاصيل حياتهم مع العمل، فالهاتف لا يصمت، ورسائل البريد لا تنتهي، والاجتماعات تمتد إلى المساء.
لذلك، فإن قرارًا بسيطًا كإغلاق الحاسوب في ساعة محددة يوميًا، أو تخصيص فترة بدون أي اتصالات متعلقة بالشركة، سيمنحك مساحة نفسية لتستعيد طاقتك، والأهم هنا ليس مجرد تقليل ساعات العمل، بل الحفاظ على أوقاتك الثمينة للراحة، لتستمتع بها بين الأهل والهوايات.
2. اجعل أوقات الراحة جزءًا من الجدول وليس رفاهية:
مهما كانت ضغوط العمل، فإن أوقات الراحة ليست رفاهية، ومن الضروري ألا يتم المساس بها، فلا تترك الاستراحات للمصادفة، وخصص وقتًا محددًا يوميًا للخروج من جو العمل، فالفواصل القصيرة هي محطات شحن للطاقة، التي تبقيك نشطًا طوال الوقت.
3. راقب روتين نومك وتغذيتك:
الإرهاق يرتبط ارتباطًا مباشرًا بسوء النوم أو التغذي، وليس عليك اتباع نظام مثالي، لكن حافظ على ساعات نوم منتظمة بقدر الإمكان، حتى لو كانت أقل قليلًا من 8 ساعات، كذلك، اهتم بتناول وجبات متوازنة، مع مراعاة شرب الماء بانتظام، فالجسد المرهق لا ينتج أفكارًا ولا حلولًا حقيقية.
4. لا تستهن بقوة العلاقات الإنسانية:
رائد الأعمال الذي يحاصر نفسه بالعمل فقط، سرعان ما يكتشف أن عزلته تضاعف شعوره بالضغوط، فلا تظن أن الوقت الذي تقضيه مع الأصدقاء أو العائلة مجرد ترفيه، بل هو جزء من استعادة اتزانك الذهني، فالمشاركة في أنشطة خارج نطاق العمل، حتى البسيطة منها، تصنع فارقًا في المزاج العام والإبداع.
5. خصص وقتًا لمتابعة شغفك خارج الشركة:
لا تجعل حياتك متمحورة حول "البزنس"، حتى لو كان يخص العائلة؛ فهواية واحدة تمارسها بشكل منتظم، سواء كانت قراءة أو رياضة أو حتى ألعاب فيديو، قد تكون سبيل نجاتك من فخ الاحتراق الوظيفي.
