تصور مختلف لتحقيق الرضا الوظيفي.. نظرية "الوظائف التي يجب إنجازها"

هل هناك طريقة أفضل لمقاربة تجربة الموظف؟
سؤال يفرض نفسه دائمًا، خصوصًا عند تقييم وضع الموظفين في الشركات حول العالم، فعلى الرغم من الأبحاث الكثيرة، لا يزال القادة يجدون صعوبة كبيرة في توفير تجربة إيجابية للموظفين.
وقد برز الخلل الأكبر في سوق العمل بعد "كوفيد"، سواء من خلال "الاستقالات الهادئة"، والتي لا تعني الاستقالة الفعلية، وإنما البقاء والقيام بالحد الأدنى من المطلوب، بانتظار النهاية المحتومة، أو من خلال النزاعات المحتدمة حول سياسات العودة إلى العمل.
هذه الأمور سلطت الضوء على واقع لم يكن بالإمكان تجاهله، وهو عدم رضا العديد من الموظفين، ما يعني أن السبب الوحيد لبقائهم لا علاقة له بالولاء، وهذا النوع من الارتباط الوظيفي غير مستدام، ومن ثم لا يعود بالفائدة على الطرفين.
وكنتيجة لهذا الواقع، بدأ الخبراء يتحدثون عن نمط جديد، يقوم على مبدأ تصميم الوظائف والمهام كما يتم تصميم المنتجات، من خلال الاستفادة من نظرية "الوظائف التي يجب إنجازها"، وتسخير مكوناتها لحل أزمة عدم الرضا.
نظرية "الوظائف التي يجب إنجازها"

نظرية "الوظائف التي يجب إنجازها Jobs To Be Done Theory"، تُعد إطار عمل يركز على فهم الأسباب الحقيقة التي تدفع العملاء لشراء المنتجات أو الخدمات، وجوهر هذه النظرية التي طورها البروفسير "كلايتون كريستنسن" من "جامعة هارفرد"، تكمن في أن العملاء "يستأجرون" المنتجات لإكمال مهام أو لحل مشكلات معينة.
فعلى سبيل المثال، أنت تقوم بشراء مثقاب ليس لميزاته فقط، بل لأنك تريد إحداث ثقب في الحائط، الذي بدوره يخدم غرضًا آخر، وهو تعليق لوحة مثلاً، وبالتالي فإن النظرية تتمثل في ضرورة تحديد الدوافع التي تحرك سلوك العميل، كبديل عن التركيز على المنتج فقط.
النظرية تعرف "الوظيفة"، على أنها ما يسعى الأفراد أو المنظمات لتحقيقه في سياق معين، والتي يمكنها أن تشمل الأبعاد الوظيفية والإجتماعية والعاطفية، فعلى سبيل المثال، قد تقوم كعميل بشراء منزلاً جديداً، ليس من أجل المساحة الأكبر فقط (البعد الوظيفي)، بل أيضاً لأنك تريد الشعور بأنك حققت هدفاً ما (البعد العاطفي).
المقاربة تقدم إطاراً يسمح للشركات بفهم سلوك العملاء، وخلق قيمة من خلال التركيز على "الوظائف" الحقيقة التي يحتاج إليها العملاء في حياتهم، وهذه الوظائف الأساسية التي ينجزها المنتج، تحدد اتخاذ القرار الشرائي وفق المعايير المالية أو الأدائية، وأخيرًا النتائج المرغوبة، والتي تمثل معايير تقييم نجاح تنفيذ الوظيفة الرئيسية، فالفهم العميق للدوافع والرغبات والتطبيق في عالم الوظائف الحقيقة، قد يحل العديد من المشكلات.
إعادة تصور العمل كمنتج
السؤال الرئيس الذي يجب الانطلاق منه هو: إن كان العملاء "يستأجرون" المنتجات أو الخدمات لتلبية احتياجات معينة في حياتهم، فمن أجل أي هدف "يستأجر" الموظف وظيفته؟!
الإجابة الحالية غير مشرقة على الإطلاق، فوفق تقرير "جالوب لعام 2024" حول حالة سوق العمل العالمي، فإن 23% فقط من الموظفين يشعرون بالارتباط بوظائفهم، و52% منهم يبحثون بشكل جدي عن وظيفة جديدة، مقابل 34% فقط قالوا بأنهم "يزدهرون" في أدوارهم، فالاستياء الواسع في هذا الإطار، يُعد جرس إنذار، وبداية لضرورة التخلص من المقاربات القديمة، وإعادة تصور جديدة لتجربة الموظفين.

وخلال السنوات الماضية برزت العديد من الشركات التي تعتمد نهج تصور العمل كمنتج، ومنها:
- شركة "أسانا Asana" للبرمجيات، إذ تعتمد على ما يسمى "منتج القيادة Leadership product"، ويتمثل فيما يقدمه القادة وتأثيره على الإنتاجية، فبدلًا من انتظار استقالة الموظف لمعرفة سبب مغادرته، تقوم الشركة وبشكل دوري بسؤال الموظفين عن رضاهم الوظيفي وعما يرغبونه، في مقاربة مماثلة لتلك التي يعتمدونها مع العملاء، وعوضًا عن وضع المعلومات في ملفات ونسج نظريات حولها، تقوم الشركة بإجراء تعديلات على أرض الواقع، لجعل الوظائف أكثر جاذبية.
- العملاق الصيدلاني "ايلي ليلي Eli Lilly"، يستخدم أدوات تحسين تجربة العملاء من أجل تحسين تجربة الموظفين أيضًا، فالفرق المتخصصة بجمع المعلومات وترجمة تجارب العملاء لبيانات، تقوم بجمع المعلومات من الموظفين، والعمل على تلبية احتياجاتهم.
اقرأ أيضًا: كيف تتعامل مع الموظف الذي لا يحترم القواعد ويتذمر عليها؟
ما الذي يريده الموظف وبأي تكلفة؟

تخيل إذا استيقظ الموظفون الذي يعملون في شركتك صباح كل يوم وسألوا أنفسهم: "هل أريد العمل لهذه الشركة اليوم"؟
الفكرة قد تبدو خيالية، ولكنها في الواقع موجودة ومنتشرة على نطاق واسع، ومزيد من العاملين حول العالم باتوا يملكون هذا النوع من الحرية، وشركات مثل "أوبر Uber" و"ليفت LYFT" و"دور داش Doordash"، وغيرها من الشركات تعتمد على المتعاقدين المستقلين، الذين يمكنهم اتخاذ قرار ما إن كانوا سيقدمون عملهم لهذه الشركة أم لا.
مزيد من الشركات حول العالم تستعين بجميع الأنواع من المتعاقدين أو الموظفين المستقلين، الذين يملكون أيضًا حرية حركة أكبر، لتحديد ما إن كانوا سيعملون ولمن سيعملون؟
الواقع نفسه قد ينطبق على الشركات التي تملك موظفين غير مؤقتين، والصورة يمكن تشبيهها بـ"الاشتراك"، الموظف "الدائم" يملك حرية تحديد مصيره شهرياً، من خلال حسم ما إن كان "سيجدد" اشتراكه أم لا، والمعضلة الكبرى هنا هي أنه لا يتعين عليه مغادرة الشركة للتوقف عن العمل فيها، فهو يقرر في كل لحظة مقدار الاهتمام الذي سيكرسه لوظيفته.
وكأصحاب مؤسسات، تدركون تماماً عواقب قرار خفض الالتزام الوظيفي، لذلك ولفهم أعمق يمكن استخدام الأدوات التي يتم استخدامها للمنتجات لفهم الموظفين، سواء لناحية المقابلات المفصلة، أو تسخير تقنيات جمع البيانات، لفهم ما الذي يريده هؤلاء فعلاً من وظائفهم.
الأسباب في معظم الأحيان تتجاوز ما هو شائع كالدخل أو الانتماء، فبعض الأشخاص يريدون لوظائفهم أن توفر لهم تحديات مثيرة، أو فرصاً للإبداع، أو حتى مهرباً من المشكلات الشخصية.
وحتى الراتب، والذي يُعد من العوامل الأكثر أهمية، قد لا يكون هدفاً بحد ذاته، بل غاية من أجل هدف آخر مختلف، وهذه الدوافع والأسباب لا تظهر في تقييمات الموارد التقليدية، وبالتالي تبرز ضرورة استخدام أدوات مختلفة، وهي الأدوات المستخدمة لتقييم رضا العملاء.
بعد تحديد السبب، سيتم الانتقال لمعالجة تكلفة العمل، التي تُعد نقطة هامة جداً، لكونها تلعب دوراً حاسماً في قرار الموظف الإستمرار بعمله أم لا.
عند الشراء كما يقوم الزبون بوضع التكلفة بالحسبان، كذلك الموظف، ووفق تقرير "هارفرد بيزنس ريفيو"، فإن تكلفة العمل متنوعة، ويتم تقييمها وفق أطر مختلفة، فالبعض يقيمها وفق تكلفة التنقلات، وفئة وفق البعد عن العائلة، والبعض وفق تأثير الوظيفية على الحياة الاجتماعية، أو هيمنة الوظيفة على حياتهم وعدم قدرتهم على القيام بأعمال أخرى وأحياناً، وكذلك وفق الممل الناتج عن المهام المتكررة، ونقص الإستقلالية، وغيرها من الأمور.
تنوع التكلفة يعني أن المقاربات التقليدية لتقييم الرضا لن تحل المشكلة، ولكن الفرق المتخصصة بتصميم المنتجات يمكنها أن تساعد على اكتشاف هذه الدوافع، وبالتالي مساعدة الشركة على تصميم خطط مناسبة.
تلبية الاحتياجات المتنوعة

بمجرد امتلاك الشركة فكرة أفضل حول ما يريده الموظف، فإن التحدي الثاني هو كيفية تلبية هذه الاحتياجات المتنوعة، وهذه الجزئية تبدو معقدة جداً، ولعل هذا يبرر واقع أن معظم الشركات التي تقارب الوظائف كمنتج، هي شركات في قطاع التكنولوجيا، وهذا أمر منطقي، لأن العاملين في تلك الشركات غالباً ما يملكون مهارات فريدة، تمنحهم عديدًا من الخيارات في سوق العمل.
وكي لا تخسر الشركة موظفيها، فإنها تقوم بتحسين تجربة الموظفين، من خلال تحقيق توازن دقيق بين المشاريع المخصصة للفرق، وفق ما يجدونه مرضياً، وبين تلبية احتياجات الشركة، وكلمة السر هنا هي التوازن، فتلبية احتياجات الموظف لا تكون على حساب احتياجات الشركة، أو العكس.
ولكي يعمل هذا النظام بفاعلية، على المدير ألا يكون أكثر تفاعلاً مع تفضيلات الموظفين فحسب، لكن عليه أيضاً "فلترة" هذه التفضيلات وفق تقيمه، ووفق أهداف الشركة.
نظرياً المقاربة قد تبدو سهلة، ولكنها أكثر تعقيداً على أرض الواقع، فالشركات تبالغ أحياناً في تقدير مهارات وقدرات الموظفين، وميول الموارد البشرية، كما أن التركيز على التعلم والتطوير يفاقم هذه المشكلة، لذلك على المدير الاستماع إلى التفضيلات بنفس الطريقة التي يستمع بها مصممو المنتجات لاحتياجات العملاء، وعند التعرف على فجوة متكررة بين تفضيلات الموظفين وتكليفات العمل، حينها يتم تحديد الطرق الصحيحة لسد هذه الفجوة.
المدير سيلعب هنا دور المصمم، الذي يستمع لاحتياجات العميل، وبالاستناد إلى نقاط القوة في المنتج، مع المحافظة على ما يجعله جذاباً، يتم التعديل ليتناسب "المنتج" وهو "الوظيفة" هنا، مع متطلبات "العميل" الذي يمثل "الموظف" في هذا السياق.
تحديات تنفيذ هذا النموذج

وفق المعلومات والدراسات والتحليلات التي أجريت على الشركات التي بدأت بتطبيق هذا النموذج، تبرز ٤ تحديات رئيسية، وهي:
تغير دور الموارد البشرية:
يتطلب العمل وفق النظر للأعمال كمنتج لعقلية جديدة، ولكن الكثير من العاملين في مجال الموارد البشرية يشعرون أصلاً بالضغط، وقلة التقدير، وهذا ما يجعلهم مترددين في تحمل مسؤوليات جديدة، بالإضافة للمخاوف المرتبطة بنجاح هذا النموذج وتداعياته على دورهم، ودور الموارد البشرية التقليدي لن يختفي بطبيعة الحال، ولكنه سيتبدل لتحقيق التوازن المطلوب.
الموزانة بين تفضيلات الموظفين واحتياجات المنظمة:
الشركات تحتاج لإنجاز مهام معينة، بغض النظر عما إذا كان الموظفون يجدونها مرضية أم لا، فحتى عندما يحاول المدير وقادة الموارد البشرية إعطاء الموظفين مزيجاً أكثر جاذبية من المهام، عليهم أيضاً تجنب وضع توقعات غير واقعية، ولحل المشكلة يجب تضمين التوقعات في عملية تصميم العمل والظروف التي قد تؤثر عليها.
الحفاظ على المرونة والعدالة:
محاولة تقديم العمل الذي يرغب الموظف القيام به قد يخلق مشكلات، بحيث يتم خلق شعور بالتحيز عند توزيع المهام المرغوبة ومكافآتها، والنقطة هذه تصبح أكثر صعوبة في الشركات الكبيرة أو الشركات سريعة النمو، بحيث يصبح تقديم تجارب عمل مخصصة لعدد كبير من الموظفين أمرًا شاقًّا للغاية، لذلك يجب وضع قواعد واضحة لكيفية توزيع العمل، وشرح كيفية اتخاذ القرار بشكل مفتوح، لخلق ثقافة تؤكد على العدالة والقيم المشتركة.
محاذاة الحوافز:
غالباً ما تواجه الإدارة أهداف أداء قصيرة المدى أكثر أهمية من دعم الرضا الوظيفي الطويل الأجل للموظفين، فالمفاضلة بين الحاضر والمستقبل من التحديات المألوفة للشركات، وعلى سبيل المثال، قوى عاملة سعيدة يعني زيادة في الانتاجية، وبالتالي فإن سعادة الموظف ليست فقط غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق أهداف على المدى القصير.