الذكاء الاصطناعي يُعيد تشكيل القيادة التقليدية.. فهل يمكن النجاح من دونه؟

نعيش حالياً في واحد من أكثر التحولات جذرية في تاريخ الأعمال، فالذكاء الإصطناعي لم يعد رؤية مستقبلية، بل أصبح حاضراً يعيد تشكيل طريقة عمل المؤسسات وتفاعل الموظفين وتجربة العملاء. وكقائد، من السهولة بمكان أن تشعر بالإرهاق من وتيرة هذا التغيير، ولكن هناك حقيقة واحدة ثابتة وسط كل المتغيرات، تتمثل في الفضول فهو أقوى أداة لديك، وهذا الفضول هو الذي سيدفعك للتعلم والتطور والتأقلم في عالم مدفوع بالذكاء الاصطناعي.
ولكن السؤال المطروح هنا، هل يمكن النجاح من دونه؟ وهل يمكن للقائد التطور والسير بالشركة وبفرق العمل التي يشرف عليها قدماً من دون الاعتماد على هذه الأدوات؟ وهل ما يزال هناك مكان للقيادة التقليدية في عصر القيادة الذكية؟
تأثير الذكاء الاصطناعي على أساليب القيادة الحديثة
مما لا شك فيه أن الذكاء الاصطناعي أعاد تشكيل القيادة في عالم الأعمال بشكل كبير، إذ أثر على عمليات اتخاذ القرارات، وبدّل في ثقافات المؤسسات، بل حتى الصفات والمواهب الأساسية المطلوبة من القادة، ولأن المجالات عديدة جداً سنذكر هنا أهمها وأكثرها تأثيرًا.
تحسين القدرة على اتخاذ القرارات:
يتيح الذكاء الاصطناعي للقادة فرصة الوصول إلى مجموعة كبيرة من البيانات خلال فترة زمنية قصيرة، كما أن استخدم التحليلات التنبؤية يساعد على اتخاذ قرارات أفضل، مبنية على توقع الاتجاهات، ومن خلال هذه التحليلات يمكن توقع سلوك العملاء وتحسين سلاسل التوريد وتقييم المخاطر بفعالية.
مثلاً يمكن لمدير في قطاع التجزئة توقع المبيعات الموسمية باستخدام الذكاء الاصطناعي، وتحديد نوعية المخزون، ووفق هذه المعلومات يقوم بحملات تسويقية موجهة بدقة نحو الجمهور، ومن ثم فإن استخدام أدوات الذكاء تتيح للقادة التكيف بسرعة مع تغيرات السوق مما يحول التخطيط من نهج جامد إلى آخر مرن.
تبسيط العمليات وإدارة الفرق:
يقوم الذكاء الاصطناعي بأتمتة المهام الروتينية المتكررة، وبالتالي يقلل من معدل الخطأ، ويزيد من الانتاجية، مما يسمح للقادة بالتركيز على الاستراتيجية والابتكار وبناء العلاقات.
وعلى سبيل المثال، تطبيقات الجدولة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، توفر الوقت وتعزز إدارة القوى العاملة، وفي السياق نفسه، ومن خلال استخدام أدوات الذكاء يمكن للقادة فهم وتقييم أداء الموظفين وتفاعلهم وإمكاناتهم بشكل مفصل.
تحول صفات القادة:
- من الحدس الى البيانات: يعتمد القادة الآن على رؤى وتحليلات الذكاء الإصطناعي، بدلاً من الاعتماد على الحدس لاتخاذ القرارات الاستراتيجية، وقد أصبح فهم تقنيات الذكاء مثل التعلم الآلي (ML) ومعالجة اللغة الطبيعة (NLP) ضرورياً لاكتشاف الفرص وتوسيع نطاق الابتكار.
- التركيز على الذكاء العاطفي: مع تولي الذكاء للمهام الروتينية، بات القادة يركزون بشكل أكبر على توجيه الفرق من خلال المحافظة على العنصر البشري في التعامل والتقييم النهائي، ومساعدتهم على الانتقال من مرحلة إلى أخرى.
- إتقان التكنولوجيا: يتعلم القادة وبشكل دائم كيفية دمج الذكاء في إطار الأعمال والأهداف.
- التحديات الأخلاقية والاستراتيجية: القادة في عصر الذكاء الإصطناعي باتوا يواجهون تحديات جديدة تتعلق بالاستخدام المسؤول للذكاء الإصطناعي، وخصوصية البيانات والانحياز في الخوارزميات، والتحدي الأكبر هو تحقيق التوازن بين الابتكار والمساءلة والشفافية والقيم الإنسانية.
مهارات قيادية ضرورية في ظل التطور التكنولوجي
ليس بالضرورة أن يصبح القائد خبيراً تقنياً كي يتمكن من إستخدام الذكاء الاصطناعي وأدواته، ولكن هناك مهارات أساسية جديدة تتماشى مع التقدم التكنولوجي يحتاج إليها كي يتمكن من النجاح، مثل:
المهارات التقنية:
المهارات التي نتحدث عنها، كما سبق وذكرنا، لا تتمحور حول الغوص في عمق المعلومات التقنية، وإنما تعلم المهارات الأساسية، وعليه فإن القادة عليهم فهم أساسيات الذكاء الاصطناعي، والتعلم الآلي وعلوم البيانات لاتخاذ قرارات مستنيرة.
وبطبيعة الحال، المهارات النظرية يجب دعمها بالمهارات العملية، من خلال معرفة استخدام أدوات الذكاء على اختلافها أو بالحد الأدنى البرنامج الذي تستخدمه الشركة بشكل معمق، مع معرفة عامة للبرامج الأخرى، كما عليهم تعلم كل ما له علاقة بخصوصية البيانات وأمنها، لضمان الامتثال للأنظمة وحماية المؤسسة.
التفكير الاستراتيجي وعقلية البيانات:
على القادة فهم كيف ينسجم الذكاء الاصطناعي مع الأهداف البعيدة المدى ورؤية الفرص، ولعل ما هو أكثر أهمية من القيادة برؤية مستقبلية يتمثل في تعلم التكيف والمرونة وتقبل التغيرات التكنولوجية السريعة والاستجابة للتحديات، وذلك لأنها قد تكون العامل الحاسم بين النجاح والفشل.
المهارات الشخصية والقيادة الأخلاقية:
في عالم الذكاء الاصطناعي التحديات الأخلاقية باتت كبيرة جداً، وعلى القادة تعلم أو تطوير مهارات جديدة قائمة على الذكاء العاطفي، من خلال الاستماع الفعال وإظهار التعاطف وحل النزاعات في بيئات قائمة على الثقة، يضاف إلى ذلك تعزيز البصيرة الأخلاقية، من أجل معالجة التحديات الأخلاقية المحتملة، مثل التحيز أو سوء الاستخدام، وذلك لحماية المؤسسة والفرق العاملة.
وخلافاً لما يظنه البعض فإن صفات الشجاعة والاعتماد على الحدس لم تقل أهميتها، بل باتت أكثر أهمية من ذي قبل، فالحدس ضروري لموازنة القرارات المبنية على البيانات ومواجهة عدم اليقين، من خلال الشجاعة في الحسم والتعلم من الأخطاء.
قيادة مدعومة بالذكاء مقابل قيادة غير مدعومة.. من ينجح؟

السؤال الذي ربما يدور في عقول الجميع، خصوصاً في العالم العربي، حيث تحتاج التطورات التكنولوجية إلى وقت قبل أن تصبح جزءاً أساسياً من عالمنا، هو: هل يمكن للقادة الذي لا يعتمدون على الذكاء الاصطناعي النجاح في عالم قائم عليه؟
صنع القرار: الحدس مقابل الرؤى المبنية على البيانات
القائد (أ) المستخدم للذكاء الاصطناعي: يستخدم التحليلات التنبؤية للتنبؤ بتحركات السوق وتحسين سلاسل التوريد وتحديد المخاطر، وعلى سبيل المثال أدوات مثل Power BI تساعده على اكتشاف نقاط الضعف في الوقت الفعلي، كما تمكنه من محاكاة سيناريوهات مستقبلية لاتخاذ قرارات استباقية مدعومة بالبيانات.
والنتيجة هي قرارات أسرع، أكثر دقة، وإن كان هناك خطر الاعتماد المفرط على الخوارزميات.
القائد التقليدي: يعتمد على الخبرة والحدس والشبكات التي كونها خلال مسيرته من المعارف أو هؤلاء الذين يتخصصون في مجالات معينة، على سبيل المثال، قد يستشير خبراء في المجال الذي يعمل فيه أو يستخدم البيانات التاريخية يدوياً.
النتيجة هي قرارات أبطأ، ولكنها أكثر عمقاً في السياق، خاصة في الصناعات التي يكون العنصر البشري فيها حاسماً مثل الفنادق الفاخرة والحرف اليدوية.
في هذه الجزئية فإن القائد (أ) ينجح في الصناعات سريعة التحول والغنية بالبيانات مثل التكنولوجيا والتمويل، أما القائد (ب) فيتفوق في المجالات القائمة على العلاقات الإنسانية مثل الاستشارات المتخصصة، الوكالات الإبداعية.
اقرأ أيضًا: شروط نجاح القيادة: أتقن التبسيط واستخدم استراتيجيات إدارة "التعقيد"!
الكفاءة: الأتمتة مقابل الإدارة المباشرة
القائد (أ): يحول المهام الروتينية إلى عمليات آلية، ويوفر الوقت من أجل التركيز على الاستراتيجيات طويلة المدى، والنتيجة هي إمكانية التوسع السريع، ولكن مع خطر فقدان الطابع الشخصي.
القائد (ب): يركز علي المتابعة اليومية والتواصل المباشر مع فرق العمل والتواصل الشخصي، والنتيجة هي تماسك فرق العمل والاهتمام بالتفاصيل، ولكن هناك صعوبة في التوسع.
هنا القائد (أ) يمكنه النجاح في الشركات الناشئة سريعة النمو أو المؤسسات العالمية، أما القائد (ب) فينجح علي نطاق أصغر، أي في إدارة الفرق الصغيرة أو الأسواق المتخصصة، حيث اللمسات الشخصية تكون بارزة.
إدارة المواهب:
القائد (أ): يستخدم الذكاء في التوظيف والتدريب، وللتنبؤ بالفجوات والاختلافات في المهارات، لتخصيص برامج التدريب، والنتيجة هي عمليات توظيف فعالة، وإن كان هناك احتمال لتجاهل المرشحين غير التقليديين.
القائد (ب): يعتمد علي الحدس والتوجيه المباشر وتنمية الفريق، من خلال التعامل والتواصل اليومي، والنتيجة هي بناء فريق بروابط قوية وولاء وخبرة، وإن كانت المقاربة هذه تستهلك الوقت والجهد.
القائد (أ) ينجح في الصناعات التي تحتاج للتوسع السريع في التجارة الإلكترونية، أما القائد (ب) فيتألق في المجالات التي تعتمد علي الإرشاد مثل المجالات الأكاديمية والحرف اليدوية.

الابتكار والتكيف:
القائد (أ): يستغل الذكاء في البحث والتطوير، مثل إكتشاف الأدوية في قطاع الصيدلة، والنماذج الأولية السريعة مثل أدوات التصميم التوليدية، والنتيجة هي تسريع الإبتكار، ولكن الكفاءة هنا قد تكون على حساب الإبداع.
القائد (ب): يقود الابتكار عبر العصف الذهني والتجارب والحدس البشري، والنتيجة هي أفكار مبتكرة تظهر ببطء، ولكنها قد تكون أكثر أصالة.
القائد (أ) ينجح في القطاعات التقنية مثل شركات الذكاء الناشئة، أما القائد (ب) فينجح في الصناعات الإبداعية مثل السينما والتصميم.
أمثلة واقعية:
القائد (أ): ساتيا ناديلا من مايكروسوفت، يستخدم الذكاء الاصطناعي لدعم الابتكار في الحوسبة السحابية، ويدمج الذكاء في الابتكار مع الحفاظ على القيم الإنسانية، مما يوزان بين التكنولوجيا والأخلاق.
القائد (ب): أيفون شوينارد من باتاجونيا، يركز على الاستدامة والنشاط المجتمعي بدلاً من الاتجاهات التكنولوجية، وينجح من خلال التوافق مع قيم العملاء حتى مع استخدام محدود جداً للذكاء الاصطناعي.
والخلاصة هي أن الذكاء أداة وليست شرطاً للنجاح، والقادة الذي ينسجمون مع متطلبات صناعاتهم، سواء من خلال التكنولوجيا المتطورة أو المهارات الإنسانية، يمكنهم النجاح، لكن المرونة طويلة المدى تتطلب عقلية هجينة، متمثلة باستخدام الذكاء الاصطناعي للكفاءة، مع الحفاظ على العناصر الإنسانية التي لا تستبدل في القيادة.