حكايات من الواقع والذاكرة.. 4 أفلام عربية تشقّ طريقها نحو الأوسكار
على مدى أكثر من تسعين عامًا، ظلّت جائزة الأوسكار هي المعيار الأرفع الذي يُقاس به الإبداع السينمائي والقدرة الإنسانية على تحويل القصص إلى لغة بصرية خالدة.
أفلام عربية مرشحة لجوائز الأوسكار
وفي نسختها الثامنة والتسعين، امتد بريق الجائزة ليشمل حضورًا عربيًا لافتًا نجح في دخول القوائم القصيرة محمّلاً بحكايات من الذاكرة والواقع والهوية.
أربعة أفلام تمثل هذا الحضور العربي في فئة "أفضل فيلم دولي"، لتقدّم للعالم مزيجًا من التجارب والأساليب والرؤى، وتؤكد أن السينما العربية لم تعد في موقع المتفرج، بل باتت شريكًا فاعلاً في تشكيل المشهد العالمي للإبداع.
فيلم فلسطين 36 - فلسطين
من فلسطين يأتي فيلم "فلسطين 36" مقتربًا من التاريخ لا بوصفه وقائع سياسية جامدة، وإنما حكاية إنسانية تنبض بالتفاصيل.
تعود أحداث العمل إلى عام 1936، حين كان الريف الفلسطيني يغلي تحت وطأة الانتداب البريطاني، وتعيش القرى حالة من التمرد والصراع على الهوية.
من خلال شخصية يوسف، الذي يتنقّل بين القدس وقريته الريفية، ينسج المخرج حكاية تصوّر تلك المرحلة بوصفها نقطة تحوّل فارقة في تاريخ المنطقة والإمبراطورية البريطانية معًا.
ولا يكتفي الفيلم باستعادة مرحلة تاريخية، بل يطرح أسئلة عميقة حول معنى الانتماء والكرامة، مقدّمًا رؤية تتجاوز الإطار الزمني إلى تأملات في الذاكرة الوطنية.
يمتاز الفيلم بعمق بصري وأداء لافت من النجم البريطاني بيلي هاول والنجمة المصرية ياسمين المصري، ما جعله من أبرز الأعمال التي لفتت انتباه النقاد في سباق الأوسكار هذا العام.
فيلم صوت هند رجب - تونس
يقدّم فيلم "صوت هند رجب" رؤية إنسانية مؤثرة تختزل المأساة الإنسانية في أكثر صورها صدقًا.
تنطلق المخرجة كوثر بن هنية من فكرة تبدو بسيطة في شكلها، لكنها بالغة العمق في معناها: مكالمة هاتفية تجريها فتاة فلسطينية تبلغ من العمر ست سنوات تُدعى هند رجب مع متطوعي الهلال الأحمر، بينما هي محاصرة داخل سيارتها تحت نيران الاحتلال في غزة.
ومن خلال هذا الصوت وحده، يتجسّد الصراع بين الموت والأمل في أكثر حالاتهما هشاشة وصدقًا، ليصبح الهاتف نافذة تُطلّ على عالم يضيق شيئًا فشيئًا.
يمتاز الفيلم بقدرة لافتة على تحويل لحظة طارئة إلى دراما ممتدة الأثر، معتمدًا على الصوت بوصفه وسيلة سردية أساسية تُغني عن الصورة التقليدية، فتغدو الكلمات والأنفاس وتقطّعات الصوت هي المشاهد الحقيقية التي يعيشها المتلقي.
فيما يمنح أداء سجى الكيلاني وكلارا خوري ومعتز ملحيس العمل صدقًا وجدانيًا عميقًا، إذ يتعاملون مع اللحظة بحساسية محسوبة، بعيدًا من المبالغة أو الانفعال المفتعل، ما يضاعف من وقع الفاجعة من دون ضجيج.
بأدوات فنية محدودة وبحسّ إنساني عميق، نجح فيلم صوت هند رجب في أن يحجز مكانه ضمن القائمة القصيرة للأوسكار، باعتباره عملا يستخرج من أدق التفاصيل أقصى درجات التعبير عن الأمل وسط مشاهد الدمار واليأس.
فيلم كعكة الرئيس - العراق
من العراق يبرز فيلم "كعكة الرئيس" للمخرج حسن هادي كأحد أكثر الأعمال العربية تميّزًا في سباق هذا العام نحو الأوسكار، إذ يقدّم حكاية طفلة صغيرة تُستدرج إلى قلب رمزية السلطة والخوف في تسعينيات العراق.
لمياء، ذات الأعوام التسعة، تُكلَّف بخبز كعكة عيد ميلاد للرئيس، لتتحوّل المهمة الظاهرية البسيطة إلى رحلة تكشف عن العلاقة المعقّدة بين براءة الطفولة وسطوة الواقع السياسي.
يعتمد الفيلم لغة بصرية تمزج بين واقعية قاتمة وسخرية إنسانية دقيقة، في محاولة لاستعادة ملامح تلك المرحلة عبر صور تتأرجح بين العبث والخوف، لتؤكّد قدرة السينما العراقية على توثيق الذاكرة السياسية المؤلمة بأسلوب عصري متماسك.
الأداء الطفولي الناضج للبطلة بنين أحمد، والرمزية الممتدة في التفاصيل اليومية للفيلم، يمنحان العمل موقعًا متقدّمًا بين الترشيحات، خاصة بعد فوزه بجائزة مهرجان هامبتونز في نيويورك.
فيلم اللي باقي منك - الأردن
يأخذ فيلم "اللي باقي منك" المُشاهِد في رحلة زمنية تمتد بين الفقد والأمل، باحثًا عن الرابط الخفي الذي يوحّد ثلاثة أجيال من عائلة فلسطينية فرّقتها النكبات وجمعتها الذاكرة.
تبدأ الحكاية في عام 1988 مع "نور"، الشاب الذي يجد نفسه وسط احتجاج يتحوّل إلى عنف في الضفة الغربية، ومن خلال عيني والدته حنان تنفتح طبقات أعمق من السرد تعود بنا إلى نكبة 1948، حين طُرد الجد من حيفا لتبدأ مسيرة تيه طويلة تظل آثارها حيّة عبر السنين.
هذه الدراما العائلية التي تجمع بين الحنين والوعي السياسي لا تكتفي بإحياء الماضي، بل تحاول فهم أثره المستمر في الحاضر، لتقدّم رؤية أردنية تعيد صياغة الحكاية الفلسطينية من منظورٍ إنساني شامل.
يبني المخرج الفيلم ببنية سردية متتابعة ومتقاطعة في الوقت نفسه، ليخلق نسيجًا تتجاور فيه اللحظة الراهنة مع امتداد الماضي، بحيث تتحول الحكاية من تأريخ للأحداث إلى تأمل في معنى البقاء والانتماء.
ومن هذا البناء المركّب تنبثق الشخصيات بواقعية شديدة، إذ يمنح الأداء المتقن لكل من صالح بكري، شيرين دعيبس، وآدم بكري روحًا نابضة تربط الأزمنة الثلاثة في خط إنساني واحد.
في نهاية المطاف، تبدو مشاركة هذه الأفلام الأربعة في القوائم القصيرة للأوسكار بمنزلة إشارة واضحة إلى نضج التجربة السينمائية في المنطقة وقدرتها على استثمار تنوعها الثقافي في صناعة رؤية عالمية.
فكل عمل من هذه الأعمال قدّم وجهًا مختلفًا للسينما العربية: فلسطين استعادت الذاكرة بالتاريخ، وتونس واجهت الواقع بالصوت، والعراق حكى السلطة من عين الطفولة، والأردن قدّم الذاكرة كرحلة أجيال.
