مفارقة الذكاء الاصطناعي: هل نفقد حدسنا القيادي عندما نفوض التفكير للآلة؟
قبل سنوات خلت، كان التنفيذيون يعتمدون على المحللين والمستشارين والتقارير المطوّلة لفهم سوق جديد، أو تشريع معقد، أو مخاطرة استراتيجية، اليوم، أصبح الأمر أسرع وأكثر سهولة: سؤال واحد، ملخص فوري، وإجابة يولّدها نموذج ذكاء اصطناعي خلال ثوانٍ معدودة.
دخل الذكاء الاصطناعي بهدوء إلى عالم الأعمال كونه مستشارًا متاحًا في أي وقت وبضغطة زر، يوضّح القطاعات غير المألوفة، يلخّص الاستراتيجيات، يبسط الأبحاث، وأحيانًا يقترح الخطوات التالية، الوعد يبدو جذابًا: قرارات أسرع وأفضل، بجهد أقل وفي وقت قياسي.
لكن الأبحاث والتجارب الحديثة تلوّث هذه الصورة المثالية وتثير مشكلة أساسية: هل يفقد القادة كفاءتهم في تقديم المشورة حين يعتمدون على الذكاء الاصطناعي كأداة رئيسية للتعلّم؟
وفي عالم الأعمال، حيث تُعد جودة المشورة معيارًا جوهريًا للقيادة، فإن تآكل هذه القدرة يضع القادة أمام معضلة كبيرة قد تنعكس بعواقب حقيقية على مستوى الشركة بأكملها.
كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي على التعلم والإنتاجية وجودة الحكم؟
القيادة لا تُقاس بمجرد امتلاك المعلومات، بل بالقدرة على تفسيرها ضمن سياقها، وتقييمها، وتحويلها إلى توجيه واضح للآخرين وسط الغموض. فعندما يخاطب الرئيس التنفيذي مجلس الإدارة، أو يوجّه فريقه، أو يقنع المستثمرين، فهو لا يكرّر بيانات جاهزة، بل يحوّل التعقيد إلى قرار محدّد وواضح ومباشر.
ومن هنا تأتي أهمية المشورة كاختبار للفهم العميق: فالنصيحة الضعيفة عادةً ما تكشف عن معرفة سطحية، بينما تعكس المشورة القوية جهدًا معرفيًا، وفهمًا للسياقات، وقناعة راسخة.
اقرأ أيضاً: حين تتكلّم الرفاهية بلغة الملايين: "سوذبيز" تعيد رسم خريطة الثروة العالمية
ومن هذا الواقع ينبثق السؤال الأهم: هل جعل التعلم المدعوم بالذكاء الاصطناعي القرارات أكثر استنادًا إلى معرفة حقيقية، والمشورة أكثر عمقًا، أم أن العكس هو ما يحدث؟
ماذا تقول الأبحاث عن التعلم مع الذكاء الاصطناعي؟
القيادة الحقيقية لا تُقاس بمجرد امتلاك المعلومات، بل بالقدرة على فهمها في سياقها، وتقييمها، وتحويلها إلى توجيه واضح للآخرين وسط الغموض. فعندما يخاطب الرئيس التنفيذي مجلس الإدارة، أو يوجّه فريقه، أو يقنع المستثمرين، فهو لا يكرر بيانات جاهزة، بل يحوّل التعقيد إلى قرار محدد وواضح ومباشر.
المشورة هنا تُعد اختبارًا للفهم العميق: النصائح الضعيفة تكشف عن معرفة سطحية، بينما تعكس المشورة القوية جهدًا معرفيًا، وفهمًا للسياقات، وقناعة راسخة.
ومن هذا الواقع ينبثق السؤال الجوهر: هل جعل التعلم المدعوم بالذكاء الاصطناعي القرارات والمشورة أكثر استنادًا إلى معرفة حقيقية وعمقًا، أم أنه يقلّل من قيمتها؟
تأثير الذكاء على الأداء الفردي والمؤسسي
تشير الدراسات إلى أن الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك النماذج اللغوية الكبيرة، أقل فاعلية مما تصوّره وسائل الإعلام. فحتى عند استخدامه كأداة للعمل والإنتاج، قد يقلّل فعليًا من الكفاءة بدلا من أن يعززها.
على سبيل المثال، أظهرت دراسة أجريت على مطورين محترفين أن المشاركين الذين استخدموا أدوات الذكاء الاصطناعي شعروا بأنهم يعملون بسرعة أكبر، إلا أن القياسات الفعلية أظهرت أنهم استغرقوا حوالي 20٪ وقتًا أطول لإكمال مهام البرمجة مقارنة بزملائهم الذين لم يستخدموا هذه الأدوات. هذا الفارق بين الإحساس الذاتي بالأداء والنتيجة الفعلية يعيد طرح مسألة وهم الكفاءة، ويضاف إليها وهم المعرفة.
ولا يقتصر الأمر على الأفراد، بل يمتد تأثيره إلى مستوى الشركات. تشير الأدلة إلى أن نحو 95٪ من الشركات التي نفذت مشاريع ذكاء اصطناعي لم تحقق أي زيادة ملموسة في الأرباح، وفق دراسة صادرة عن MIT شملت مئات المشاريع في قطاعات مختلفة.
في المقابل، وجد باحثون في جامعة شيكاغو أن الذكاء الاصطناعي قد يزيد أحيانًا من عبء العمل بدلاً من تخفيفه، إذ يخلق مهام إضافية تتعلق بمراجعة النتائج والتحقق من صحتها وتصحيح الأخطاء التي ينتجها النظام.
عندما يأخذ الذكاء الاصطناعي كل الثقة
الضعف في تقديم المشورة؟
الذكاء الاصطناعي يغذي "وهم المعرفة"، بحيث يشعر القادة بأنهم اكتسبوا الكثير بسرعة بدون جهد معرفي عميق. حتى لو كانت المعلومات دقيقة، يقلّل التعلم السهل من التركيز والمعالجة الذهنية المطلوبة لفهمها في سياقها وتوظيفها عمليًا.
ينعكس هذا النقص على نوعية المشورة، فتتحول المعلومات السطحية إلى نصائح مختصرة تفتقر إلى العمق والسياق التنظيمي، ما يؤثر سلبًا على القرارات الاستراتيجية وإدارة المواهب والاندماجات والاستحواذات وغيرها من القرارات الحساسة. وعندما يغيب البناء التدريجي للمعرفة الحقيقية، يميل القادة إلى إعادة صياغة مخرجات الأدوات بدل اختبارها أو تطويرها، ما يجعل التوصيات أقل تماسكًا وصعوبة التنفيذ.
كما أن افتقار الذكاء الاصطناعي للإشارات العاطفية والحدس البشري يعيق فهم القادة لفرق العمل والأسواق. باختصار، عندما يكون التعلم ناقصًا، تصبح المعرفة غير دقيقة، فتضعف المشورة.
استراتيجيات تجنب هذا الفخ: نحو استخدام هجين
رغم التحديات التي يطرحها الذكاء الاصطناعي، يمكن التوفيق بين قوته وخبرة البشر من خلال نهج هجين ومتوازن:
استخدامه للمسح الواسع وتحليل البيانات: يمكن للذكاء الاصطناعي جمع ومعالجة كميات ضخمة من المعلومات بسرعة، لكنه يظل أداة مساندة وليس بديلا كاملا عن الحكم البشري. يساعد ذلك في كشف الأنماط والاتجاهات التاريخية، بينما يحتفظ الفريق القيادي بمساحة للتقييم النقدي.
تفعيل النقاشات الجماعية: الحوار بين الزملاء يحد من تأثير "تحيز السلطة" المرتبط بمخرجات الأنظمة الذكية، ويضيف بعدًا بشريًا للتحليل، بما يشمل مراجعة الافتراضات، الاستفادة من الحدس، ومراعاة الأبعاد الثقافية والتنظيمية.
ضبط مستوى الثقة بالمخرجات: من المهم وضع حدود واضحة للثقة الممنوحة للبيانات والتوصيات الصادرة عن الذكاء الاصطناعي، ما يحمي المؤسسات من قرارات متفائلة بشكل مفرط. يمكن للقادة تحليل أسوأ السيناريوهات مسبقًا للكشف عن التحيزات الخفية وتصحيح القرارات قبل أن تتحول إلى أخطاء مكلفة.
اقرأ أيضاً: القيادة المباشرة: بين الحضور الفعّال والتأثير التنظيمي
تعزيز التعلم العميق: ممارسات مثل تدوين الملاحظات يدويًا أو إجراء نقاشات حول القرارات تشجع على بذل جهد عقلي حقيقي، وتقلل من وهم المعرفة، ما يرفع جودة المشورة التي يقدمها القادة.
باختصار، الذكاء الاصطناعي ليس أداة عديمة الفائدة، بل يمكن أن يكون شريكًا فعليًا في العمل إذا استُخدم بالشكل الصحيح، كشريك في القرار لا سيدًا عليه. فهو لا يتجاوز ذكاء الشخص الذي يوجّهه ويحدد له الحدود والسياق.
وفي عالم الأعمال، حيث تُبنى القرارات على مشورة القادة، تبقى هذه المشورة العمود الفقري للشركات مهما تطورت الأدوات والتقنيات.
