حين تتكلّم الرفاهية بلغة الملايين: "سوذبيز" تعيد رسم خريطة الثروة العالمية
في لحظاتٍ نادرة، تتحوّل قاعات المزادات من مجرد مساحات للبيع إلى مسارح كبرى للتاريخ، تُعاد فيها صياغة موازين القوة على مرأى العالم. ففي 18 نوفمبر 2025، دوّنت سوذبيز نيويورك فصلاً استثنائيًا عندما بيعت لوحة «بورتريه إليزابيث ليدرير» لغوستاف كليمت مقابل 236.4 مليون دولار، متجاوزةً التقديرات بأكثر من 60%، لتتربع كثاني أغلى لوحة في تاريخ الفنون.
ولم يقتصر المشهد على الغرب وحده، ففي فبراير 2025 أعلنت الرياض دخولها نادي النخبة عبر مزاد Origins، الذي حقق 17.3 مليون دولار، وشهد بيع قمصان مايكل جوردان بقيمة مليون دولار لمشترين سعوديين.
وفي التوقيت نفسه، رفع مشترون خليجيون سقف المنافسة على ياقوتة Estrela de Fura إلى 34.8 مليون دولار في جنيف، في مشهدٍ رسّخ حضور الثروة العربية في الصفوف الأولى لعالم الاقتناء.
ما يجري داخل صالات سوذبيز ليس مجرد تبادلٍ للأموال مقابل القطع، بل مرآة لخرائط النفوذ المتحوّلة حول العالم. هنا، في هذا المعبد الرأسمالي للجمال، لا تُباع اللوحات والمنحوتات والمجوهرات كتحف فنية فقط، بل تتحوّل إلى مؤشرات اقتصادية نابضة، تكشف حركة رأس المال الخفي، وتفضح تحوّلات القوة بين القارات… في صمتٍ لا يقطعه سوى سقوط المطرقة.
سوذبيز.. البورصة غير المرئية للثروات الفائقة
على مدى عقود، لم تعد «سوذبيز» مجرد دار مزادات تقليدية وُلدت في لندن، بل تحوّلت تدريجيًا إلى مرصد عالمي للاقتصاد الفاخر، تُقاس فيه نبضات الثروة لا بالأرقام وحدها، بل بندرة ما يُعرَض على منصاته. فهي تعمل في سوقٍ بالغ الخصوصية، شديد الندرة، قليل السيولة، يستعصي على نماذج التسعير التقليدية، فتغدو أسعار مزاداتها بوصلة يقرأ عبرها المستثمرون والاقتصاديون شهية الأثرياء للمخاطرة، وميولهم نحو تكديس الأصول الرمزية.
بدأ هذا التحوّل الكبير مع تمدّدها الجغرافي نحو نيويورك وآسيا وأوروبا، بحيث التقت رؤوس الأموال على لغة واحدة لا تحتاج إلى ترجمة: لغة الأصول النادرة بوصفها ملاذًا آمنًا بعيدًا من تقلبات البورصات وضجيج الأسواق.
اليوم، ومع صعود نخب الثروة من آسيا والشرق الأوسط، باتت مزادات سوذبيز الكبرى تعكس بوضوح انتقال مركز الثقل في خريطة المال العالمية. فحين تُدفَع الملايين في قاعات آسيا مقابل لوحة أو جوهرة، لا يكون ذلك مجرّد شغف جمالي، بل دليل حي على سيولة مالية هائلة وثقة عميقة في الأصول الرمزية كحاضن للقيمة.
ووفق تقارير Art Basel وUBS Global Wealth Report، يرتبط ازدهار سوق الفن ارتباطًا مباشرًا بتضخم ثروات أصحاب الثروات الفائقة، ما يجعل من سوذبيز مؤشرًا غير معلَن لصحة الاقتصادات الناشئة والتقليدية معًا.
أما الاقتصاد الذي يُدار داخل قاعاتها، فهو اقتصاد الندرة بامتياز، بحيث لا تُحدَّد القيمة بالجودة وحدها، بل بتاريخ الملكية، وبهالة الجمال الثقافي. وكما يشرح عالم الاجتماع بيير بورديو في نظريته عن «رأس المال الرمزي»، فإن امتلاك تحفة فنية عالمية لا يمنح مالكها ثروة مالية فحسب، بل سلطة اجتماعية وهيبة ثقافية تتجاوز منطق السوق. وهنا تتجلّى براعة سوذبيز الحقيقية: إنها تتقن تحويل الرأسمال الرمزي إلى سعر معلن، ثم تحويل السعر إلى مكانة أسطورية.
عندما يحدد الشرق الأسعار القياسية
في السنوات الأخيرة، خرج مشترو آسيا والشرق الأوسط من هامش المشهد إلى مركزه، ليتحوّلوا إلى قوة طاغية تعيد رسم معنى “القيمة القصوى” في سوق الفن.
تتصدّر هونغ كونغ قلب هذا التحوّل اللافت، إذ قفزت مبيعات سوذبيز فيها من نحو مليون دولار عام 2011 إلى أكثر من 1.5 مليار دولار في 2023 وفق تقارير الدار السنوية. غير أن الحكاية لا تُروى بالأرقام وحدها، بل بما يُشترى بها. فهؤلاء الجامعون، مع توسّع اهتمامهم بالفن الغربي، باتوا هم من يرسم الحدود العليا للأسعار، ويدفعون بالأعمال الواحدة إلى ما يتجاوز 20 مليون دولار في كثير من الأحيان.
والصورة ذاتها تتكرّس في الشرق الأوسط، بحيث برزت السعودية والإمارات كلاعبين محوريين في المعادلة الجديدة. لم يعد المشترون العرب مجرّد مشاركين في اللعبة، بل صنّاع اتجاهات يرفعون الأسقف السعرية من خلال صفقات مدوّية:
من ياقوتة “Estrela de Fura” التي بيعت مقابل 34.8 مليون دولار لمشترٍ خليجي، إلى مزاد “Origins” في الرياض الذي لامس 17 مليون دولار، وصولا إلى “أسبوع الجامعين” في أبوظبي 2025 الذي تخطّى 133 مليون دولار، مع دفع ما يقارب 1.2 مليون دولار مقابل مجموعات وحقائب بيركين.
هذا الصعود الآسيوي والعربي-الخليجي يصنع تأثيرًا مزدوجًا: فهو من جهة يرفع السقف السعري المطلق، ومن جهة أخرى يمهّد لولادة أسواق جديدة ذات قيم عليا، لتخرج خريطة المال من أحاديتها إلى تعدّد مراكز الثقل.
والتحوّل هنا لا يحمل بعدًا تجاريًا فحسب، بل يمتد إلى فضاء السياسة الناعمة. فعندما يقتني ملياردير آسيوي أو عربي لوحة لفنان غربي، فهو لا يستثمر في الفن وحده، بل يشارك في حوار ثقافي عالمي، ويساهم، بهدوءٍ وذكاء، في صياغة سردية جديدة عن قوة بلاده الناعمة على المسرح الدولي.
القطع العابرة للقارات: القوة الرمزية وسردية النفوذ
لا تبيع «سوذبيز» لوحات ومجوهرات نادرة فحسب، بل تحوِّل كل مزاد إلى ساحة للسلطة الرمزية ومسرحٍ للدبلوماسية الناعمة. فانتقال لوحة أو حجر كريم من قارة إلى أخرى لا يُقرأ بوصفه صفقة تجارية فقط، بل رسالة مشفَّرة عن مكانة مدينة أو دولة على خريطة النفوذ الثقافي والاقتصادي.
فالملكية هنا ليست اقتناءً عابرًا، بل أداة لإعادة تعريف الهوية وبناء الرمز. وحين تصطف مزادات دبي والرياض إلى جانب هونغ كونغ ونيويورك ولندن، فهي لا تجمع المال بالفن فقط، بل تصوغ صورة عالمية متقدمة لهذه المدن بوصفها عواصم جديدة للذوق والثروة معًا.
ضمن هذا الإطار، تؤدي سوذبيز دور الوسيط الحاذق بين المال الخاص والرمز الوطني، عبر كتالوجات بحثية دقيقة وعروض مُحكمة، تمنح كل قطعة سرديةً أيقونية، وتجعلها قابلة للمقارنة بأعظم التحف المحفوظة في المتاحف العالمية.
ومع صعود المشترين من آسيا والشرق الأوسط، لم يعد هذا الانتقال مجرد حركة في سوق مزايدات، بل أصبح إشارة واضحة على تحوّل موازين القوة في اقتصاد الرفاهية. فهؤلاء لا يرفعون السقوف السعرية فحسب، بل يكتبون سردية جديدة للقوة الثقافية والاقتصادية.
وفي الخلفية، تتحرك الحكومات بذكاء على هذا الإيقاع، مستثمرةً هذا الزخم ضمن استراتيجيات ثقافية واسعة توظِّف المزادات والمتاحف والمجموعات الوطنية بوصفها أدوات فاعلة في صناعة القوة الناعمة… حيث يصبح الفن لغة سياسة، والاقتناء خطاب نفوذ.
