داخل جدران سوذبيز: همسات الغرف المغلقة قبل سقوط المطرقة
في الظاهر تبدو دار سوذبيز مجرد مسرح عالمي للمزايدات القياسية، تتصدر عناوين الأخبار كلما سُجِّل رقم جديد لعمل فني أو جوهرة نادرة.
لكن ما لا يراه معظم المتابعين هو العالم الخفي الذي يسبق لحظة رفع الشارة وسقوط المطرقة، شبكة من العيون الخبيرة والقرارات الحساسة والقصص المدهشة التي تعيشها القطع قبل أن تظهر لثوانٍ معدودة تحت الضوء.
في هذا التقرير ندخل إلى تلك المنطقة المحجوبة عن الجمهور، لنرى كيف تنظر سوذبيز إلى القطع قبل عرضها، كيف تمر من تحت مجهر الخبراء، وكيف يمكن لقرار واحد من عين خبيرة أن يغيّر مصير وعاء خزفي منسِي أو لوحة معلّقة في صالون خاص، ليجعلها فجأة حديث العالم.
كيف تنظر سوذبيز إلى القطع قبل عرضها؟
داخل دار سوذبيز لا تُعامَل القطعة بوصفها غرضًا جميلا او نادرًا فحسب، بل كائن له سيرة كاملة تُقرأ بعين خبيرة قبل أن يُمنح حق الظهور تحت أضواء المزاد.
يبدأ التقييم من الاسم الموقَّع على العمل، سواء كان فنانًا أو صانعًا، مرورًا ببلد المنشأ والبيئة التي خرجت منها القطعة، ثم تاريخ الملكية الذي يكشف مسارها بين الأيادي والمجموعات عبر الزمن، وتاريخ التنفيذ الذي يربطها بلحظة محددة في مسيرة الفنان أو في سياق تاريخي أوسع.
تُفحَص المواد المستخدمة، والأبعاد، ودرجة الندرة، والموضوع أو نوع القطعة، إلى جانب حالتها الراهنة، قبل أن تُوضَع هذه الصورة الكاملة في ميزان المقارنة مع مبيعات مماثلة وسجل أداء أعمال الفنان نفسه أو فنانين ينتمون إلى مدرسة قريبة.
عندما يتبيّن لخبراء سوذبيز أن قطعتك تمتلك المقومات التي تجعلها مناسبة للسوق في لحظته الحالية، يصلك تقدير أولي، يمنحك الوقت لتتأمل قيمتها وتقرر بهدوء القبول أو الرفض.
وحين يوافق المالك على هذا التقدير، تنتقل القطعة رسميًا إلى رعاية الدار عبر اتفاقية التسليم، وهي الوثيقة التي تُرسِّم قواعد اللعبة بوضوح، من شروط عرض القطعة إلى تفاصيل بيعها والتزامات كل طرف في هذه الرحلة.
وفيما يشبه خط الدفاع الأخير عن قيمة المقتنى، يُحدَّد لكل قطعة سعر احتياطي يكون عند أو أقل بقليل من الحد الأدنى للتقدير المتفق عليه.
هذا السعر لا يراه الجمهور ولا يسمعه المزايدون، لكنه يظل حاضرًا في خلفية المزاد كضمانة حاسمة، تمنع بيع القطعة بأقل من العتبة التي يرتضيها مالكها وتحفظ لها مكانتها في سوق يراقبه العالم عن كثب.
نظرة خبراء سوذبيز الخفيّة
قبل أن تُعرض أي قطعة في سوذبيز على جمهور المزايدين، تمر أولاً أمام عيون خبراء اعتادوا قراءة أدق التفاصيل كما لو كانوا يقرأون سيرة ذاتية خفية.
قد تبدو التشققات في طلاء لوحة زيتية، مثلاً، جزءًا من سحرها القديم، لكن السؤال الحقيقي الذي يطرحه الخبراء هو: هل هذه التشققات من ملامح أسلوب الفنان نفسه، أم نتيجة تلف يهدد العمل مع مرور الوقت؟ هذه المنطقة الرمادية لا يحسمها الانطباع، بل خبرة فريق متخصص يعرف كيف يفسّر الحالة الفيزيائية لكل عمل، ويقدّر تأثيرها الفعلي على قيمته الفنية والسوقية.
هنا تحديدًا يظهر اختلاف منظور الخبير عن المتلقي العادي، فكما يوضح جونكويل أوريلي، أخصائي لوحات الأساتذة القدامى في سوذبيز، قائلاً: "هناك من يفضل أن يكون أثر الزمن واضحًا جدًا على اللوحة، كجزء من القيمة الجمالية التي يبحث عنها"، بينما يرى الخبير ما وراء هذا الأثر: أين ينتهي سحر الزمن وأين يبدأ خطر التلف.
في قسم التقييمات لدى سوذبيز، لا يُنظر إلى القطع بوصفها أغراضًا معزولة، وإنما عناصر في منظومة دقيقة من المعايير المعترف بها عالميًا.
هذا القسم يقدم جردًا وتقييمات مخصصة تعتمد عليها وكالات حكومية ومؤسسات مالية وسماسرة تأمين دوليون، ما يعني أن ما يكتبه خبير سوذبيز في تقريره لا يظل حبيس ملف داخلي، بل يصبح مرجعًا رسميًا في عالم الأصول الفنية.
يجمع الخبراء بين المعرفة التاريخية وسوق الفن المعاصر، مع التزام صارم بسرية تامة تحمي مقتنيات الأفراد، والمتاحف، والهيئات الائتمانية، والشركات، فلا يخرج عن دائرة التقييم إلا ما يوافق عليه المقتني نفسه.
كل عملية فحص تُصمَّم بما يناسب طبيعة المجموعة وصاحبها، قد تبدأ من قطعة واحدة تحمل قيمة خاصة، وتمتد إلى مجموعات ضخمة ومتعددة الفئات.
ومع تطور أساليب العمل، لم يعد الفحص حكرًا على المعاينة المادية داخل جدران الدار. إذ يمكن لفريق سوذبيز أن يبدأ عملية التقييم عن بُعد بالاستناد إلى معلومات تفصيلية وصور عالية الدقة، وإعداد مسودات لوثائق تقييم رسمية، إلى جانب تحديث الأرقام الخاصة بالمجموعات التي سبق تقييمها.
ثم يأتي دور الفحص المباشر، سواء في المكتب أو عبر جلسة افتراضية مدروسة، ليُستكمل المشهد التقني والبحثي الذي يضمن أن كل قطعة مرت من تحت مجهر الخبرة قبل أن تأخذ مكانها تحت الضوء.
وسط هذا كله، تبقى الأصالة السؤال الأهم الذي لا يغيب عن ذهن أي خبير في سوذبيز. كما يقول نيكولاس تشاو، خبير الأعمال الفنية الصينية، "الأصالة هي روح القطعة"، ولإثباتها قد يحتاج الفريق إلى بحث علمي وتحليل أقرب إلى الدراسة الأثرية، مع تتبع دقيق لتاريخ الملكية ومقارنات تاريخية وفنية موسعة، قبل أن يمنحوا أي عمل ختم الثقة بأن ما يراه المقتني اليوم هو بالفعل ما خرج من يد الفنان منذ عقود أو قرون.
"لجان الذوق": حيث يُقرَّر مصير القطعة
بعد أن تعبر القطعة مرحلة الفحص الأولي وتقييم حالتها وقيمتها، تدخل إلى دائرة أخرى أكثر استراتيجية داخل سوذبيز، حيث تجتمع ما يمكن وصفه بلجان الذوق.
في هذه الاجتماعات الداخلية، لا يكون السؤال فقط: ما قيمة القطعة؟ بل: أين يجب أن تظهر؟ وهل تنسجم مع هوية المزاد وتركيبته؟ هنا يناقش القيّمون والمؤرخون وخبراء التسويق ما إذا كانت القطعة أنسب لمزاد الفن المعاصر أم للتحف الكلاسيكية، وهل تحقق حضورًا أقوى ضمن بيع عام، أم أن قيمتها وسيرتها تجعلان من البيع الخاص خيارًا أكثر ملاءمة.
في هذه اللحظة، تُقاس المخاطرة إلى جوار العائد المحتمل، وتُدرس العلاقة بين القطعة وبقية الأعمال في المزاد، بحيث لا تكون مجرد رقم في كتالوغ، بل جزءًا من سردية كاملة تستهدف نوعًا محددًا من المقتنين.
بالتوازي مع هذه القراءة الجمالية والاستراتيجية، تبدأ طبقة أخرى من العمل لا تقل حساسية: التحقق من السجلات وسلامة تاريخ الملكية.
لدى سوذبيز فرق متخصصة في هذا الجانب، تتعامل مع القضايا المعقدة التي تمس الاسترداد والملكية المشكوك فيها، خصوصًا الأعمال المرتبطة بفترات مضطربة مثل الأعوام بين 1933 و1945 وغيرها من مراحل النزاعات.
هذه الفرق تستند إلى بحوث أرشيفية معمّقة، تربط القطعة بسجل تاريخي موثوق، وتراجع الوثائق وبيانات المجموعات السابقة، لتتأكد أن مسارها عبر الزمن خالٍ من فجوات أو علامات استفهام قانونية أو أخلاقية.
وحين تظهر شبهة ملكية، ولو طفيفة، خاصة في الأعمال التي مرّت بمناطق نزاع أو تغيرات سياسية حادة، تصبح القطعة موضوع تحقيق متقدم لا يكتفي بالسطح.
في هذه المرحلة قد تُجمَّد مشاركتها في المزاد إلى حين اتضاح الصورة بالكامل، وفي حال تعذر الوصول إلى يقين يرضي معايير سوذبيز الصارمة ومسؤوليتها المؤسسية، يكون سحب القطعة من المزاد خيارًا مطروحًا بجدية، حتى لو كانت من أكثر الأعمال إثارة للاهتمام.
اقرأ أيضًا: من أزقة جايبور إلى أضواء سوذبيز: ساعات Trunks Company تتألّق في المزاد
قطع مرت على خبراء سوذبيز.. فتغيّر مصيرها
في عالم سوذبيز، لا تُقاس قيمة القطعة بما تراه العين فحسب، بل بما تحمله من حكايات. يختصر فرانك إيفرت من قسم الجواهر في سوذبيز هذه الفلسفة قائلًا: "تاريخ الملكية هو الجزء المفضل لديّ؛ من ارتداها، ومتى، وكيف، وكم مرة. هذه التفاصيل الدقيقة ليست مجرد هامش، بل هي القصص التي نعيش من أجل اكتشافها، لأنها ما يحوّل المقتنى من شيء نفيس إلى سيرة كاملة".
وعاء خزفي فاخر
في عام 2023، قدّم مزاد سوذبيز في هونغ كونغ مثالا حيًا على ذلك حين بيع وعاء خزفي من فئة Falangcai يعود إلى القرن الثامن عشر مقابل 25 مليون دولار.
على الورق، هو وعاء من البورسلين الإمبراطوري، لكن في ميزان سوذبيز هو تجسيد نادر لمعادلة متكاملة: أصالة مؤكدة، ومهارة تنفيذ استثنائية، وندرة قصوى، وتاريخ ملكية مثالي.
اجتماع هذه العناصر جعل القطعة تقفز بعيدًا فوق تقديراتها الأولية، وتتحول تحت مطرقة المزاد إلى حدث في سوق الفن الآسيوي، لا مجرد صفقة ناجحة.
لوحة Lady With a Fan
المشهد نفسه تكرر على مستوى آخر في لندن خلال يونيو 2023، عندما بيعت لوحة Lady with a Fan (امرأة مع مروحة) للفنان كليمت في مزاد سوذبيز مقابل 108.4 مليون دولار، لتسجل أعلى سعر يُدفَع لعمل فني داخل أوروبا.
هذه اللوحة لا تستمد قيمتها من جمالها البصري أو توقيع كليمت وحدهما، بل من ندرتها ومكانتها في سياق تاريخ الفن الأوروبي، ومن تاريخ ملكية محاط بعناية، يجعلها حلقة مفصلية في مسيرة فنان يُعد من أعمدة الحداثة. هنا يصبح الثمن انعكاسًا لمكانة تاريخية وثقافية بقدر ما هو تعبير عن جودة فنية.
مزهرية آسيويّة نادرة
لكن ربما تتجلى قوة عين الخبير وتأثير سوذبيز على مصير القطع الفنية بأوضح صورة في قصة وُلدت من عُلّية منزل في فرنسا.
ففي العام 2018، عُرضت مزهرية خزفية نادرة من عهد الإمبراطور تشيانلونغ في مزاد سوذبيز في باريس، بعد أن ظلت لعقود منسية داخل علبة أحذية في علية أحد منزل.
عند التقييم الأولي، قُدِّرت قيمتها بين 500 ألف و760 ألف دولار أمريكي، رقم ضخم لقطعة آسيوية قديمة، لكنه لا يشي بما سيحدث لاحقًا تحت أضواء المزاد.
ما إن ظهرت المزهرية أمام جمهور المزايدين، مسنودة بخبرة التقييم والأبحاث التاريخية من سوذبيز التي ربطتها بأصولها الإمبراطورية، حتى تحولت الجلسة إلى معركة مزايدة حقيقية.
ارتفع السعر خطوة بعد أخرى، إلى أن تجاوزت القطعة حاجز 19 مليون دولار، لتصبح واحدة من بين أغلى قطع الخزف التي بيعت في تاريخ سوذبيز في فرنسا، وواحدة من أبرز مبيعات الفن الآسيوي في أوروبا.
اقرأ أيضًا: سوذبيز تطلق معرض أيقوناتها التاريخية.. لوحات نادرة ومقتنيات خالدة
لوحة زيتية لويليام ترنر
في 2025، أضافت سوذبيز فصلاً جديدًا إلى هذه الحكايات حين عُرضت في لندن لوحة بعنوان The Rising Squall, Hot Wells, from St Vincent's Rock, Bristol (العاصفة الصاعدة، الينابيع الساخنة، من صخرة سانت فنسنت، بريستول).
تلك اللوحة النادرة، هي أول لوحة زيتية عرضها الفنان الشهير ويليام ترنر علنًا، وكان ذلك في العام 1793، حينما رسمها وهو في السابعة عشرة من عمره.
اللوحة ظلت مخفية لأكثر من 150 سنة في مجموعة خاصة، ثم ظهرت في مزاد محلي بسعر رمزي لا يليق بتاريخها المحتمل. هناك، بدأ عمل الخبراء: تقييم دقيق، إثبات التوقيع الأصلي، دراسة الأسلوب، مراجعة التوثيق، وإعادة نسب العمل إلى ترنر بصورة قاطعة.
ما إن اكتملت هذه السلسلة من الأدلة، انتقلت اللوحة إلى منصة سوذبيز، حيث بيعت مقابل نحو 2.6 مليون دولار. هذه القفزة الهائلة في القيمة لا تعكس فقط أهمية ترنر في تاريخ الفن البريطاني، بل تكشف أيضًا كيف يمكن لنظرة خبيرة أن تعيد تعريف مصير عمل ظل مجهولاً لعقود.
