من ورقة بريد إلى ثروة أسطورية: حين قفز السنت إلى الملايين في "سوذبيز"
وُلدت دار «سوذبيز» للمزادات في قلب لندن قبل ما يقارب ثلاثة قرون، وتحديدًا في الحادي عشر من مارس عام 1744، لتكتب منذ ذلك اليوم سطرها الأول في ملحمة عالم الفن والاقتناء.
ومع مرور الزمن، تحوّل اسمها إلى مرادفٍ للفخامة والندرة، وأيقونةٍ عالمية لبيع روائع الفنون، والمقتنيات الاستثنائية، والمجوهرات، والساعات التي تُقاس قيمتها بالتاريخ لا بالأرقام.
وعبر مسيرتها المديدة، نسجت «سوذبيز» تقويمًا حافلا بنحو 250 مزادًا سنويًا في أكثر من 70 فئة مختلفة، شهدت خلالها انتقال مئات الآلاف، بل ملايين القطع، بين الأيدي مقابل أرقام فلكية حبست الأنفاس.
وفي هذا التقرير، نبحر معًا في ذاكرة الدار، لنكشف عن أبرز القطع التي تركت أثرًا خالدًا في تاريخها؛ إما بندرتها الاستثنائية، أو بأسعارها الصادمة، أو بالقصص المدهشة التي أحاطت بها وأشعلت فضول العالم.
أغلى طابع بريدي في التاريخ
يحمل هذا الطابع حكايةً تمتد جذورها إلى عام 1856، حين وُلد على عجل في مستعمرة «غويانا البريطانية» -غويانا اليوم في أمريكا الجنوبية- بوصفه «طابعًا طارئًا»، أُصدر على استعجال بعدما تأخّرت شحنة الطوابع الآتية من بريطانيا.
جاء بسيط الهيئة، لكنه سرعان ما تحوّل إلى أسطورة، إذ لم يبقَ من فئة السنت الواحد من إصدار ذلك العام سوى هذه النسخة الوحيدة التي نجت من غبار الزمن.
وبعد سبعة عشر عامًا من صدوره، تعثّر به فتى إسكتلندي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، عثر عليه مصادفةً بين أوراق عمّه. لم يكن الطابع مُسجَّلا، ولم يكن الصبي يدرك أنه يمسك كنزًا من نوادر العالم، فباعه بثمنٍ زهيد لا يساوي شيئًا مما كان ينتظره في الأعوام المقبلة.
وفي عام 1878، شقّ الطابع طريقه إلى ليفربول ليستقر في يد تاجر يُدعى توماس ريدباث، الذي أدرك على الفور أنه أمام قطعة لا تُقدَّر بثمن. لم يلبث أن باعه إلى الأمير فيليب فون فيراري، أحد أشهر جامعي الطوابع في التاريخ. غير أن الحرب العالمية الأولى جاءت لتقلب المصير من جديد، فصودر الطابع، ثم أُعيد طرحه للبيع في باريس عام 1922، ليحقق آنذاك رقمًا كبيرًا بمعايير تلك الحقبة.
تنقّل الطابع بعد ذلك بين أيدٍ عديدة، من أبرزها يد وريث عائلة أمريكية عريقة يُدعى جون بونت، الذي اقتناه مقابل نحو 935 ألف دولار، مبلغ بدا صاعقًا في حينه. لكن المفاجأة الحقيقية كانت ما ينتظر هذا الطابع بعد رحيل بونت.
ففي عام 2014، عاد الطابع إلى الواجهة عبر منصة «سوذبيز» في نيويورك، بحيث لم يستغرق بيعه أكثر من دقيقتين، ليخطفه مشترٍ مجهول مقابل 9 ملايين و480 ألف دولار، في مشهدٍ أكد أن هذه القصاصة الورقية الصغيرة لم تكن مجرد طابع بريد، بل أسطورة مالية وتاريخية عابرة للعصور.
علم أوكرانيا المقلوب
هل صادفت يومًا ذلك النوع من الفن الذي يعجز العقل عن فكّ شيفرته، ومع ذلك تُفتح له خزائن الملايين على مصاريعها؟ هذه القطعة تنتمي تمامًا إلى ذلك العالم المُحيّر، فهي ليست “موزة معلّقة بشريط لاصق”، تلك التي بيعت فعلا بـ 6.2 مليون دولار، لكنها، على بساطتها الصادمة، لوحة لا تزيد عن لونين مقلوبين يشبهان علم أوكرانيا!
تحمل اسم “Untitled (Yellow and Blue)” أو «بدون عنوان (أصفر وأزرق)»، وهي إحدى “تجليات” الفنان الأمريكي مارك روثكو التي أنجزها عام 1954. مجرد مساحتين لونيّتين تتجاوران في صمت، بلا رموز ظاهرة، ولا حكاية مباشرة، ولا معنى يُمسَك به من اليد.
ومع ذلك، وفي مفارقة لا يجيدها سوى عالم الفن الحديث، وقفت هذه اللوحة الزيتية في مزاد سوذبيز عام 2024 لتُباع بما يقارب 32.5 مليون دولار. رقمٌ فلكي لعملٍ يبدو، للعين المجرّدة، أقرب إلى تمرين لوني بسيط.
ولا تحاول أن تبحث عن علاقة بأوكرانيا أو عن رسالة سياسية خفيّة، فالأمر، بحسب روثكو، لا يتعلّق بمعنى يُفسَّر، بل بتجربة شعورية تُحَسّ ولا تُفَسَّر. تجربة أرادها الفنان أن تُلامس الداخل، لا أن تُشرَح بالعقل. هكذا، ببساطة مدهشة وغموض طافح، تتحوّل بقعتان من اللون إلى ثروة، وإلى جدلٍ لا ينتهي.
ساعة "The King" من Rolex
دعنا نلتقط أنفاسنا قليلا من عالم الغموض، وننتقل إلى فخامةٍ لا تحتاج إلى جدل كي تُبرِّر سحرها، إلى ساعة Rolex Cosmograph Daytona The King، التي اعتلت عرش المزادات في سوذبيز بعدما بيعت مقابل 5.23 مليون دولار.
النسخة التي خطفت الأضواء تحمل الرمز الأسطوري Reference 6270، وقد صُيغت من ذهبٍ أصفر عيار 18 قيراطًا، وتوّجها إطار وقرص مُرصَّعان بالألماس، فيما ازدانت عقاربها بالياقوت، في سيمفونية مترفة من الضوء والندرة. إنها ليست مجرد ساعة، بل قطعة مجوهرات نابضة بالهيبة، تُصنَّف بين أفخم ما خرج من مشاغل Rolex على الإطلاق.
ولأن الأساطير لا تُصنَع بالجملة، فلم يُنتَج من هذه التحفة سوى ثماني نسخ فقط في العالم، جرى تصنيعها بطلبٍ خاص في أوائل الثمانينيات لصالح السلطان قابوس بن سعيد، سلطان عُمان، عبر تاجر ساعات مرموق في لندن، لتبدأ رحلتها الصامتة في دوائر النخبة والقصور.
وفي أكتوبر 2025، عادت هذه الساعة إلى الضوء من بوابة سوذبيز، لتُسجِّل رقمًا تاريخيًا جديدًا باعتبارها أغلى ساعة Daytona حتى الآن، وواحدة من أغلى ساعات Rolex التي شهدتها منصات المزادات. هكذا، من معصم السلاطين إلى قاعة المزاد، تثبت “الملك” أن الزمن قد يكون ذهبًا، حين يُصاغ بأسطورة.
اقرأ أيضًا: سوذبيز تحتفي برفاهية لا مثيل لها في أبوظبي بمزادات الماس والساعات والسيارات
النسخة الخاصة من سيارة "Ferrari Daytona SP3"
لوحة للعلم الأمريكي بأكثر من 13 مليون دولار
بالعودة إلى عالم الفن المربك، ذلك الذي تُحيّر لوحاته الأبصار قبل أن تُدهش الأرقام، تطالعنا لوحة زيتية تحمل اسم Georges’ Flag، بيعت في دار سوذبيز مقابل 13.65 مليون دولار، متجاوزةً التقدير الأدنى الذي كان يقف عند حدود 8 ملايين فقط.
في هذا العمل، يستحضر الفنان الأمريكي المعاصر إد روشا علم بلاده، باسطًا إياه على خلفية تُشبه توهّج الغروب، حيث تمتزج الألوان في مشهد يوحي برمزية ثقافية ووطنية، كأن الراية لا تُرفَع في سماء السياسة، بل في أفق الشعور والهوية. لوحة تبدو، في ظاهرها، بسيطة التكوين، لكنها تعجّ بإيحاءات صامتة تترك الباب مفتوحًا لكل تأويل.
وهنا يقف السؤال معلّقًا في الهواء: كيف للّوحة كهذه أن تبلغ 13.65 مليون دولار؟ أهو ثمن اللون؟ أم ثمن الفكرة؟ أم أن الاسم الموقّع في الزاوية هو البصمة الأثقل وزنًا في ميزان المزادات؟
بين من يرى فيها قيمة فنية خالصة، ومن يعتقد أن مكانة الفنان في سوق الفن هي من تصنع الأرقام، يبقى الجدل مفتوحًا، وتبقى الحقيقة الوحيدة الثابتة أن في عالم اللوحات، كثيرًا ما يُباع الغموض بأغلى مما يُباع الوضوح.
مجموعة ماكلوي The Macklowe Collection.. أغلى ما بيع في "سوذبيز"
