اضطرابات القلق.. الظل الخفي وراء قراراتنا
القلق.. ذلك الرفيق الخفي الذي يتسلل إلى تفاصيل يومنا، يختفي بين نبضات القلب المتسارعة، ويختبئ في التردد قبل القرار، وفي الصمت الذي يسبق الكلام، ليترك أثره على خطواتنا وقراراتنا بدون أن نشعر.
وبينما يراه البعض عدوًا يجب التخلص منه، يراه آخرون فرصة لفهم الذات، وإعادة ترتيب الداخل.
في هذا التقرير، نغوص في أعماق اضطرابات القلق: من أين تبدأ؟ كيف تظهر؟ وكيف يمكننا أن نحولها من عبء إلى طاقة دافعة؟
جذور القلق: من أين يبدأ؟
تتعدد العوامل التي تسهم في نشوء اضطرابات القلق، إذ يُعد التعرض لصدمات نفسية أو أحداث مؤلمة في مراحل مختلفة من الحياة من أبرز المحفزات التي تترك أثرًا عميقًا في النفس، وقد تمتد آثارها لفترات طويلة.
كما أن الوراثة تلعب دورًا مهمًا، فوجود تاريخ عائلي للإصابة بمثل هذه الاضطرابات يزيد من احتمال انتقالها عبر الأجيال.
ولا يمكن إغفال تأثير بعض الحالات الصحية الجسدية، التي قد تؤدي إلى تفاقم مشاعر القلق، خاصة إن كانت مزمنة أو مرتبطة بوظائف الجهاز العصبي.
اقرأ أيضا: القلق والدوخة قد يكشفان عن ورم نادر.. دراسة جديدة تُثير الانتباه
كذلك، فإن الضغوط الحياتية المتراكمة، سواء الناتجة عن تغيّرات مفاجئة أو تحديات يومية مستمرة، تُعد بيئة خصبة لظهور القلق وتطوره.
ويُضاف إلى تلك الأسباب أن وجود اضطرابات نفسية أخرى، كالاكتئاب، قد يُضاعف من حدة القلق ويزيد من تعقيد التعامل معه.
أعراض لا يمكن تجاهلها
تتجلّى اضطرابات القلق في مجموعة من الأعراض التي تؤثر بشكل مباشر على جودة الحياة اليومية.
إذ يشعر المصاب بقلق مفرط وخوف دائم تجاه مواقف قد تبدو عادية للآخرين، ويجد صعوبة في السيطرة على تلك المشاعر التي تتفاقم من دون سبب واضح أحيانًا.
ومع مرور الوقت، تبدأ هذه الأعراض بالتأثير سلبًا على الأداء اليومي، سواء في العمل أو في العلاقات الاجتماعية، مما يزيد من حدة التوتر ويعمّق الإحساس بالعجز.
وقد تتطور الحالة إلى نوبات هلع مفاجئة، تتسم بمشاعر خوف طاغية تبلغ ذروتها خلال دقائق معدودة، مصحوبة بأعراض جسدية مزعجة كضيق التنفس وتسارع ضربات القلب.
وفي محاولة لتفادي هذه المشاعر المؤرقة، يلجأ البعض إلى تجنب الأماكن أو المواقف التي قد تثير القلق، مما يحدّ من حريتهم ويقيد تفاعلهم مع محيطهم.
كيف نتعامل مع القلق؟
رغم أن اضطرابات القلق قد تبدو طاغية في تأثيرها، فإن التعامل معها ليس مستحيلا. فبقدر ما تكون هذه الاضطرابات مرهقة، فإن هناك العديد من الوسائل التي أثبتت فعاليتها في التخفيف من حدّتها واستعادة التوازن النفسي.
ولمواجهة هذه الاضطرابات والتخفيف من وطأتها، يمكن اعتماد مجموعة من الأساليب الفعّالة. البداية تكون من تحسين جودة النوم، عبر الالتزام بروتين منتظم وتهيئة بيئة هادئة تساعد على الاسترخاء واستعادة التوازن النفسي.
اقرأ أيضا: دراسة تكشف علاقة الجري المتكرر في الماراثونات بالاكتئاب والقلق
كما أن ممارسة التمارين الرياضية بانتظام تساهم في إفراز هرمونات السعادة، ما ينعكس إيجابًا على المزاج ويقلل من التوتر.
ومن المفيد أيضًا الانخراط في الأنشطة المحببة، كالهوايات أو الفنون، لما لها من أثر في تشتيت الذهن وتوفير متنفس نفسي صحي.
ولا بد من مواجهة الأفكار السلبية، من خلال التعرف إلى أنماط التفكير غير المنطقية واستبدالها بأفكار أكثر واقعية وتفاؤلا.
وأخيرًا، فإن التواصل مع الآخرين، ومشاركة المشاعر مع الأصدقاء أو أفراد العائلة، يمنح شعورًا بالدعم والانتماء، ويخفف من وطأة القلق ويعزز الشعور بالأمان.
تعلم من ميسي: تحويل القلق إلى قوة
عندما يهاجمك القلق، لا تهرب. توقف للحظة، خذ نفسًا عميقًا، وابدأ من جديد. هذه الفلسفة هي جوهر تقنية RAIN، التي ابتكرها الطبيب النفسي وعالم الأعصاب جودسون بروير، وتُعد من أقوى الأدوات للتعامل مع التوتر والاضطرابات النفسية.
تبدأ التقنية بالاعتراف بمشاعرك وأفكارك كما هي، بلا إنكار أو مقاومة. ثم تنتقل إلى فهم أعمق لهذه المشاعر من خلال التأمل والتحقيق الذاتي، لتفكيك القلق وتحويله إلى عناصر يمكن التعامل معها.
كذلك تركّز التقنية على الملاحظة الواعية للحظة الحاضرة، من دون إصدار أحكام، مما يمنحك سيطرة أكبر على مشاعرك بدلاً من أن تسيطر هي عليك.
هذه التقنية ليست مجرّد نظرية نفسية، بل هي أداة عملية يمكن أن تغيّر طريقة تعاملنا مع القلق، وقد تجسّدت بشكل مذهل في حياة أحد أعظم الرياضيين في التاريخ: ليونيل ميسي.
لطالما كان النجم الأرجنتيني معروفًا بقلقه الشديد، لدرجة أن نوبات التوتر كانت تجعله أحيانًا يُصاب بالقيء قبل المباريات الكبرى.
لكن ميسي لم يسمح لهذا القلق أن يعيقه، بل استخدمه كأداة قوة. تمامًا كما توصي تقنية RAIN بالوعي تجاه المشاعر والسّماح لها بالوجود بدون مقاومة، يبدأ ميسي المباريات بهدوء، يراقب الوضع حوله، يلتقط أنفاسه، ويعيد ضبط تركيزه، مجسّدًا التطبيق العملي لنفس الفلسفة على أرض الواقع.
هذا التمهل ليس ضعفًا أو ترددًا، بل استراتيجية عقليّة وجسديّة تهدف إلى تهدئة الأعصاب وتحقيق التركيز المثالي. ففي اللحظات الأولى قد لا يكون الأكثر تأثيرًا، لكنه يزرع الأساس لما سيأتي لاحقًا في المباراة.
الدرس واضح للجميع: سواء كنت رياضيًّا في الملعب أو شخصًا يواجه تحديات الحياة اليوميّة، فإن التنفس الواعي والملاحظة الحاضرة يمكن أن تكون الخطوة الأولى نحو السيطرة على القلق وتحويله إلى قوة دافعة نحو النجاح والتقدم.
