العبء النفسي الخفي: كيف يؤثر تغير الزملاء على الموظف القديم؟
سنة تلو الأخرى، يتغيّر زملاء العمل، بينما يظلّ أحد الموظّفين هُناك قابعًا بخبرة طويلة، وقدرة استثنائية على إنجاز مهام، ربّما لا يستطيعها غيره، لكن قد يخفِي ذلك النشاط والخبرة، ومشاعر سلبية، وربّما يسأل نفسه: هل حان وقت التغيير؟ لماذا تغيّر زملائي وبقيت هنا إلى الآن؟ هل فات الأوان؟ وفي الحقيقة تجول في خاطر هذا الموظف أسئلة لا تنتهي، فكيف تتغيّر نفسية الموظفين القدامى مع تغيّر زملاء العمل؟ ومتى تكون الاستقالة هي الخيار الصحيح؟
كيف يتأثّر الموظفون القدامى نفسيًا بتغير زملاء العمل؟
قد تنعكس استقالات الزملاء المتكررة، وتغير بيئة العمل من حول الموظفين القدامى، وتحوّلها كما لم تكُن في السابق، على نفسية الموظفين القدامى من نواحٍ مختلفة، تضم حسب "Psychology Today":
1. الولاء غير المُقدَّر:
تُظهِر معظم الشركات تقديرها لفترات الخدمة الطويلة للموظفين علنًا، لكن في الحياة اليومية، غالبًا ما يجد الموظفون القدامى أنفسهم غير ظاهرين، بل يُستقبَل الوافدون الجُدد بحماس، والمغادِرون يُحتفَى بهم، أمّا من يتمسّكون بعملهم، فما المتوقّع منهم؟ مواصلة العمل بلا أدنى شك.
لكن بمرور الوقت، قد يؤدي هذا الافتقار إلى التقدير، إلى شعور الموظفين بالتجاهل، وربّما التقليل من قِيمتهم، ويصبِح من السهل ترسيخ فكرة أنّ الولاء أمر مُسلَّم به، وليس موضع تقدير.
وقد وصف عالِم النفس "دونالد وينيكوت" ذات مرة "الذات الزائفة"، وهي نسخة وقائية من الذات، نقدِّمها للتعامل مع التوقعات الخارجية؛ إذ يتبنَّى العديد من الموظفين القدامى نوعًا من السلوك المهني، يتمثّل في كونهم موثوقين، لا يشتكون، ومرنين، بينما يخفُون في داخلهم شعور الإحباط أو عدم الانسجام مع بيئة العمل، ومع ذلك لا يصرّحون بهذا الأمر، فضلًا على أن يقدّموا استقالاتهم.
2. ثِقل الوداع غير المميّز:
إنّ رحيل كل زميل يعِيد تشكيل بيئة العمل؛ إذ يُعاد بناء الثقة، وكذلك تعريف الأدوار، لكن نادرًا ما يُعترَف بهذه التغييرات، بل الشائع أن يغادِر الناس ويستمر العمل، ومن المتوقّع من الشخص الذي يبقى أن يتكيّف مع العمل سريعًا.
وتشبِه هذه التجربة ما أسمته عالمة النفس "بولين بوس" بـ"الخسارة الغامضة"، وهو نوع من الحزن دون نهايةٍ أو حسم.
وفي مكان العمل، قد لا ينشأ هذا الحُزن من حدثٍ درامي واحد، بل من نمط من الغيابات البطيئة والمتكررة لزملاء العمل السابقين، والنتيجة هي شكل من الإرهاق العاطفي.
فالموظّف القديم الباقي في منصبه، رغم تغيّر الأفراد من حوله، لا يتحمّل عبء العمل فحسب، بل يتحمّل أيضًا عبء التعامل مع التغييرات العاطفية المستمرّة في العمل، وهذا مجهود نفسي غير مُقدَّر غالبًا.
3. ارتباط الوظيفة بالهوية الذاتية:
تتطوّر المؤسسات، وتتبدّل فلسفتها، وتُستحدَث أدوات جديدة، ومع مرور الوقت، تتراكم هذه التغيّرات لتُشكّل شيئًا أعمق؛ هو ثقافة لم تعُد مألوفة.
وهذا قد يؤدّي إلى ما يعرِّفه عالِم النفس "إريك إريكسون" بنوع من "توتر الهوية"، فنحن نبني جزءًا من إحساسنا بالذات حول عملنا؛ من نحن في هذا المكان، ما نتقِنه، كيف نرتبط بالآخرين في هذا المكان.
لكن عندما تتغيّر المؤسسة أكثر مما نتغيّر نحن، فقد نشعر بأنّنا لم نعُد متناغمين معها، أو حتى بأنّنا لم نعُد على صلة بها.
وبالنسبة لكثيرٍ من الموظفين القدامى، لا يظهر ذلك في شكل عدم رضا فوري، بل يكون في شكل تساؤلات هادئة تطوف بالنفس: هل ما زال هذا المكان يناسبني؟ هل ما زلت أجد نفسي في هذا العمل؟
اقرأ أيضًا:إيتيكيت تقديم الاستقالة.. 7 أخلاقيات احترافية تحلَّ بها قبل المغادرة
4. متلازمة الناجي:
ثمّة مصطلح نفسي يعرف بـ"متلازمة الناجي"، يُستخدَم عادةً لوصف تجربة الأشخاص الذين يبقون بعد تسريح العمال أو عمليات إعادة التنظيم الكبرى.
ولكن حتى في حالات المغادرة الطبيعية أو ترك الموظفين العمل لأسبابٍ عادية، يمكِن أن تظهر نفس المشاعر، فعندما يرى الموظف القديم زملاءه السابقين ينتقلون إلى وظائف أخرى وينجحون، قد يشعر بنوعٍ خفيف من الندم أو الشك في نفسه، ويتساءل في نفسه: هل فاتتني اللحظة المناسبة؟ هل ما زلت هنا لأنني اتخذت قرارًا بالبقاء أم لأنّني لم أتخذ قرارًا بالفعل على الإطلاق؟
تصعب الإجابة على هذه الأسئلة، خاصةً إذا كان الموظّف يتحمّل مسؤوليات أكثر، ولديه معرفة تراكمية بتاريخ المؤسسة، ولديه عدد أقل من الزملاء الذين يمتلكون نفس الذاكرة المؤسسية.
ومن هنا قد يبدأ الموظف القديم في الشعور بأنّ وجوده أصبح أمرًا مُسلّمًا به، حتى وهو الشخص الذي يحافِظ على تشغيل أنظمة، لا يعرف غيره كيفية استخدامها.
ويُعرَف هذا الوضع بـ"إرهاق الدور"، وهو نوع من التعب النفسي والمهني، يتسلّل ببطء، يستنزف الشخص تدريجيًا، لكن دون لحظة انهيارٍ واضحة أو حدثٍ كبير يعلِن عن المشكلة.
متى يُفضّل الاستقالة فعلاً؟
في بعض الأحيان، رغم بذل قصارى جهدك، فإنّ البقاء في العمل لن يكون هو أفضل الخيارات، خاصةً إذا تغيّرت ثقافة العمل جدًا لدرجة لم تجد نفسك منسجمًا معها، أو عندما تشعر بأنّ الاتفاق الضمني بينك وبين المؤسسة لم يعُد قائمًا، أي ما كُنت تعتقد أنّك ستقدمه من ولاء وجهد، وما تتوقع أن تحصل عليه في المقابل من تقدير، دعم، فرص، أمان وظيفي، وما إلى ذلك.
عند هذه اللحظة، قد يصبِح قرار ترك الوظيفة أكثر منطقية، وغير مرتبط بالهروب من واقعٍ سيء، بل أشدّ ارتباطًا بالبحث عن بيئة عمل تنسجم وتتوافق معها.
ولعل الانتقال إلى مكانٍ آخر، لا يلغي أو يقلّل ما قدّمته من إنجازاتٍ في الماضي، لكن العمل يتغيّر بمرور الوقت مثل أي شيء في الحياة، ومِنْ ثمّ فقد يكون قرار التغيير هو القرار الأكثر منطقية وصدقًا في بعض الأحيان.
فقرار البقاء في العمل، يجب ألّا يكون نتيجة عدم اتّخاذ قرار أو مجرّد استمرارٍ تلقائي، نعم، قد تكون طول مدة الخدمة في مؤسسة ما إنجازًا، لكن ينبغي أن يكون ذلك خيارك بوعيك الكامل؛ مبنيًا على إدراكٍ ذاتي لنفسك وقدراتك، فعندما يكون قرار البقاء مقصودًا ومدروسًا، لا يكون مجرد عادة أو استسلام لروتين مُعيّن، بل استئناف لمسيرةٍ استثنائية تستحق بلوغ المجد.
