مشاعر لا تُقدّر بثمن.. كيف تُغيّر الأبوة دماغ الرجل؟
تزامنًا مع اليوم العالمي للأب الذي يوافق الأحد الثالث من شهر يونيو لكل عام، يتجدّد النقاش حول الأثر العميق الذي تتركه تجربة الأبوة في حياة الرجال، ليس فقط من حيث دورهم في تربية الأبناء، بل من حيث التحوّل العاطفي والنفسي الذي يعيشونه هم أنفسهم.
فبينما انشغلت الدراسات لسنوات طويلة بتوثيق فوائد وجود الأب في حياة الطفل، بدأت أبحاث معاصرة تُظهر بوضوح أن الأبوة تمنح الرجل شعورًا متجددًا بالإشباع والاتزان الداخلي، وتُعيد تشكيل نظرته لذاته والعالم من حوله.
أظهرت الدراسات أن قضاء الآباء وقتًا مع أبنائهم لا يثري حياة الأطفال فحسب، بل يُعيد تشكيل نظرة الآباء للعالم من حولهم، ويمنحهم شعورًا أعمق بالمعنى والتوازن النفسي، وقد دفع هذا التفاعل كثيرين منهم إلى الإقرار بأنهم تعلّموا من أبنائهم بقدر ما سعوا إلى تعليمهم. هذا ما أكّده الباحث لورانس ر. صموئيل في كتابه "الأبوة الأمريكية: تاريخ ثقافي"، الذي وثّق فيه تطور دور الأب ومكانته النفسية والاجتماعية داخل المجتمع الأميركي على امتداد العقود.
تعاطف.. حب بلا شروط.. ونمو عصبي
كشفت دراسة شملت أكثر من 200 أب أن تجربة الأبوة تُسهم بشكل مباشر في تعزيز مشاعر التعاطف والرحمة لدى الرجال، في انسجام واضح مع نظرية "التوليدية" لعالم النفس إريك إريكسون، التي تعتبر أن النضج الإنساني لا يكتمل إلا عبر الإسهام الفعّال في حياة الأجيال المقبلة.
وأوضحت الدراسة أيضًا أن الأبوة لا تؤثر سلبًا في المسار المهني للرجال كما يُعتقد شائعًا، بل تُضيف بعدًا إيجابيًا لحياتهم. كما أظهرت أن الأب النشط والمشارك يُسهم في تربية أطفال أكثر نضجًا وثقة واستقلالية، وهو ما أكده كل من علماء النفس جوزيف بليك، وجون سناري، وأنطوني ماير.
في السياق ذاته، بيّنت الأبحاث أن العلاقة العاطفية التي تنشأ بين الأب وطفله، وتُغذّيها هرمونات كالأوكسيتوسين، تُحدث تأثيرًا متبادلًا وعميقًا في الطرفين، بما يعزّز من الصحة النفسية للأب كما الطفل.
أكّد البروفيسور ريتشارد تايلور، الذي خاض تجربة الأبوة بفارق يقارب أربعة عقود بين ولديه، أن الأبوة المتأخرة شكّلت بالنسبة له تحولًا نفسيًا عميقًا، مختلفًا تمامًا عن تجربته الأولى في شبابه.
وأوضح أن إنجاب ابنه الثاني في عمر متقدّم، حين تراجعت ضغوط العمل والاهتمامات الاجتماعية، أتاح له اختبار شكل جديد من الحب والارتباط الهادئ، وصفه بـ"الرضا الكامل".
وبيّن تايلور أن الحكمة التي اكتسبها مع السنوات، إلى جانب تركيزه الكامل على عائلته، مكّنته من إدراك الأبوة من زاوية أكثر عمقًا ونضجًا، بما يضفي على تجربته الثانية طابعًا وجدانيًا استثنائيًا.
"متلازمة الاغتراب الوالدي".. عندما يدفع الطفل ضريبة انفصال الأبوين
الدماغ يتغيّر حين يصبح الرجل أبًا
أثبتت أبحاث علم الأعصاب أن تجربة الأبوة تُحدث تحولات فعلية في دماغ الرجل، مشابهة لتلك التي تمر بها النساء خلال فترة الحمل، ما يكشف عن بُعد بيولوجي عميق في العلاقة بين الأب وطفله. فقد أوضح الباحث براين موسوب في تقرير نشرته مجلة Scientific American Mind أن دماغ الأب يشهد نشاطًا متزايدًا بعد ولادة الطفل، ويبدأ بتكوين روابط عصبية جديدة تُعزز من قدرته على التواصل والرعاية، مما يُرسّخ علاقة قائمة على تناغم بيولوجي فعلي بين الطرفين.
وفي دراسة نُشرت في مجلة PNAS، تبيّن أن دماغ الأب قادر على التكيّف تبعًا للمواقف الأبوية المختلفة، من خلال تفعيله لشبكات عصبية متعدّدة تتنقل بين أنماط التفكير والحماية والترابط الاجتماعي، ما يعكس مرونة عصبية متقدمة ترتبط بمسؤوليات الأبوة.
وتُشير هذه النتائج إلى أن الأبوة ليست مجرد دور اجتماعي بل تجربة داخلية معقّدة تنطوي على نضج عاطفي وتحوّل نفسي وعصبي متكامل. كما تكشف الأبحاث أن قابلية الرجل لأن يكون أبًا صالحًا لا تعتمد فقط على التنشئة، بل أيضًا على بنية دماغية فطرية تُفعّلها هذه التجربة. ومع انتقال الاهتمام العلمي من الأمومة إلى الأبوة، بدأ يتشكّل وعي جديد بأهمية دور الأب، بوصفه شريكًا عاطفيًا ومعرفيًا فاعلًا في رحلة تنشئة الأطفال، في خطوة تفتح آفاقًا لفهم أعمق وأشمل للأبوة في العصر الحديث.
