جواهر فينيسية: اكتشف جزر البندقية الخفية ومغامراتها الفاخرة

البندقية ليست كأي مدينة إيطالية، فهي لوحة فنية حية، عالم ساحر من القنوات الممتدة بين المباني الخلابة والأزقة الضيقة الأشبه بالمتاهات، والجسور الأنيقة، والسحر الذي لا تجدونه في أي مكان آخر. ولكن ماذا لو قلنا لك إن السحر الحقيقي يكمن في أماكن أخرى، وأن أجمل أسرار المدينة مخبأة بعيدًا عن أعين السائحين؟!
خلف ساحة "سان ماركو"، وبعيدًا عن زحام الجندول والتجارب السياحية النمطية، تكمن سلسلة من الجزر غير التقليدية الساحرة، كل واحدة منها لها حكاياتها الخاصة.
السياحة في البندقية
فقبل أن تُبهر البندقية العالم بقنواتها المتشابكة وساحاتها النابضة بالحياة، كانت الجزر النائمة في البحيرة الفينيسية تنسج أسطورتها الخاصة. فلنكتشف هذا العالم الساحر بمغامراته الفاخرة بعيدًا عن الزحام السياحي.
تورشيلو Torcello: حيث بدأت أسطورة البندقية
في قلب تلك البحيرة الفينيسية الساحرة، تقع "تورشيلو Torcello"، الجزيرة التي شهدت ميلاد الحضارة الأولى في هذه البقعة الساحرة من إيطاليا.
تخيل جزيرة تلمع تحت أشعة الشمس، محاطة بأكثر من 100 جزيرة كبيرة وصغيرة، بعضها سيشكل لاحقًا نواة مدينة البندقية الأسطورية، ولكن قبل كل هذا المجد والعظمة، كانت تورشيلو هي الجوهرة الحقيقية لهذه البحيرة، بمجتمع ينبض بالحياة، يضم ما يصل إلى 20,000 نسمة، جعلها مركزًا حيويًا للتجارة والسياسة والدين.
البحيرة ليست مجرد مياه مالحة عادية، بل نظام بيئي فريد، حيث تلتقي المياه العذبة بالمالحة، وتتشابك القنوات الطبيعية مع الصناعية، لتصنع لوحة مائية آسرة. ما جعلها تبرز كأول مركز حضاري هو أن البحيرة وفرت الحماية الطبيعية للمستوطنين الأوائل، وشكلت شبكة طرق تجارية حيوية.
التجول في تورشيلو اليوم أشبه بالدخول إلى كبسولة زمنية حية، قصصها لا تزال حية. فهنا تقع "بازيليك ماريا أسونتا" التي بُنيت عام 639 ميلادي، وفي الساحة المركزية يبرز عرش "أتيلا" الحجري.
اليوم، تقدم الجزيرة أكثر من مجرد رحلة عبر التاريخ. يمكن للزوار الانطلاق في جولات خاصة بالقوارب برفقة مرشدين محليين، تشمل سيارات الأجرة المائية والكاتاماران. أما الإقامة، فمحدودة، ويبرز فيها فندق ومطعم "لواندا كيبرياني Locanda Cipriani"، الذي استضاف شخصيات بارزة مثل "أرنست همنغواي".
وعند مغادرة تورشيلو متجهًا شمالًا، تبدأ ألوان زاهية بالظهور، في تناقض كلي مع تلك الجوهرة الكلاسيكية. إنها "بورانو Burano".
بورانو Burano: مزيج الألوان والحياة
جزيرة تتحدى قواعد التنسيق المعتادة، وكأنها خرجت من حلم فنان. منازل زاهية، أزقة ملونة، وكل ركن فيها يروي قصة.
وفق الحكاية المتداولة، كان الصيادون يلونون منازلهم ليتمكنوا من تمييزها في الضباب. أما اليوم، فهي وجهة بصرية شهيرة عالميًا.
وتشتهر بورانو أيضًا بفن الدانتيل، وهو إرث حرفي نسائي عريق. يمكنك زيارة متحف الدانتيل أو حضور ورش حياكة برفقة حرفيات محليات.
الجزيرة مشهورة بمطعم "ال ناتو نيرو Al Gatto Nero" الحائز على نجمة ميشلان، كما يمكن استئجار قارب خاص لاكتشافها بعيدًا عن الزحام، أو الإقامة في فنادق بوتيكية تجمع بين الأصالة والرفاهية.
بعدها، يكفي أن تعبر الجسر الخشبي إلى "مازوربو Mazzorbo" لتنتقل إلى عالم مختلف.
مازوربو Mazzorbo: جوهرة البحيرة السرية
إذا كانت "بورانو" صاخبة و"تورشيلو" حكيمة، فـ"مازوربو" هي الحديقة السرية التي تجمع بينهما. واحة زراعية هادئة تعبق بالتاريخ.
الجزيرة معروفة بكروم العنب والبساتين الواسعة، وتُزرع فيها أصناف عنب فينيقية قديمة. وتاريخها التجاري يعود إلى العصر المسيني (1600–1100 ق.م).
ولكنها ليست فقط وجهة تاريخية، بل تقدم أيضًا تجارب فاخرة تتناسب مع الباحثين عن الراحة والخصوصية، من أماكن الإقامة الفاخرة إلى المطعم الحائز على نجمة ميشلان.
ويمكن استكشاف الجزيرة سيرًا على الأقدام، أو من خلال جولات خاصة بالقوارب تشمل الجزر المجاورة.
الجولات عادة ما تشمل الجزر الثلاث، لأنها تشكل معًا مسار عبور في حكاية تروى عبر ثلاث شخصيات: "تورشيلو" الحكيم العجوز حافظ الأسرار، "بورانو" الفنانة الصاخبة، و"مازوربو" الطاهية الهادئة التي توفر السكينة للمتعبين. كل جزيرة تكمل الأخرى، وتقدم أقنعة البندقية الثلاثة: الماضي، الحاضر، والأبدية.
اقرأ أيضًا: رحلة عبر الطبيعة الخلابة والتراث العريق لاستكشاف الباحة.. سويسرا الشرق
سان فرانشيسكو ديل ديزيرتو San Francesco del Deserto: جزيرة الصمت
بين جزيرتي "بورانو" و"سانت إيرازمو"، تقع جزيرة "سان فرانشيسكو ديل ديزيرتو"، التي يقال إنك تستطيع فيها سماع همس أشجار السرو.
ووفقًا للأسطورة، لجأ القديس "فرانسيس الأسيزي" إلى الجزيرة عام 1220 بعد عودته من الأراضي المقدسة. لا يزال الدير قائمًا، ويعيش فيه مجتمع صغير من الرهبان الفرنسيسكان.
يمكن للزوار حجز زيارات مسبقة للاستمتاع بلحظات من الصمت الروحي في هذا الملاذ، وسط بحيرة تعج بالحركة. أما تجربة الوصول، فيمكن أن تكون فاخرة حسب الرغبة، عبر جولات خاصة تشمل الجزر المحيطة.
سانتا كريستينا Santa Cristina: الفردوس الخاص
من بين أكثر من 100 جزيرة في البندقية، تُعد "سانتا كريستينا" الأكثر غموضًا، فهي جنة خاصة بلا جسور أو محطات أو حشود.
كانت يومًا ديرًا في العصور الوسطى، أما اليوم فهي منتجع فاخر تحيط به بساتين الزيتون والبرك المائية. الوصول إليها يتطلب ترتيبات خاصة، غالبًا عبر قوارب خاصة.
بعض منظمي الرحلات الفاخرة يقدمون رحلات يومية أو إقامات في مساكن ريفية أنيقة ضمن الجزيرة.
ورغم صعوبة الوصول مقارنة بجزر أخرى، فإن المكافآت استثنائية: نزهات بين أشجار التين، التجذيف عند الغسق، والشعور السريالي بامتلاك جزيرة فينيسية كاملة.
إن جزر البندقية المخفية ليست مجرد أماكن، بل بوابات إلى زمن آخر. وسواء كنتم تبحثون عن التاريخ، الصخب، الهدوء، أو ببساطة الرفاهية المطلقة، فإن هذه الجواهر الخفية تعدكم ببندقية قلما يراها أحد.