ستغير مستقبل المعاملات المالية: العملات المشفرة.. كيف بدأت؟
لعل أحد أبرز التحولات التقنية والمالية في العقود الأخيرة تتمثل في بروز "العملات المشفَّرة Cryptocurrencies"، واعتمادها بشكلٍ واسع حول العالم، حيث أصبحت اليوم ركيزة في عديد من القطاعات، بما في ذلك "التكنولوجيا المالية FinTech"، والاستثمار المؤسسي، وتطبيقات "التمويل اللامركزي DeFi"، وغيرها.
وقد يظن البعض أن القصة بدأت حصريًا مع "بيتكوين Bitcoin" في عام 2009، لكن الحقيقة أكثر تشعبًا، فقبل البيتكوين كانت هناك محاولات طموح لتأسيس مفهوم النقد الرقمي، وتحريره من قبضة الأنظمة التقليدية.
في السطور التالية سوف نخوض رحلة نستكشف خلالها المحاولات الأولى لاختراع العملات المشفرة، وكيف اندمجت مع نجاح البيتكوين، ليولد نظامًا ماليًا جديدًا يغير مفهومنا عن النقود التقليدية.
البدايات الأولى للعملات الرقمية
لم تكن فكرة العملات الرقميّة وليدة اللحظة التي ظهر فيها "ساتوشي ناكاموتو" بنظريته عن البيتكوين، بل امتدت جذورها إلى حقبة الثمانينيات، حين طوّر عالم التشفير الأمريكي "ديفيد شوم" رؤيته حول النقد الرقمي الموثوق والآمن.
ففي عام 1983، نشر "شوم" بحثًا طرح فيه مبدأ "التواقيع الخفية Blind Signatures"، وهي تقنية تشفير تهدف إلى تحقيق الخصوصية والأمان في المعاملات الرقمية، بحيث يُمكن توقيع مستند دون معرفة محتواه؛ ما يمنح المستخدمين خصوصية تشبه حمل النقود الورقية في محافظهم دون التعرّض للتعقب أو التزوير.
فتح هذا التصور المبدئي الباب أمام "شوم" لتأسيس شركة DigiCash في مطلع التسعينيات؛ وقد عملت هذه الشركة على ابتكار أول عملة رقمية في التاريخ، والتي سُميت بـ"eCash".
الفكرة كانت ثورية آنذاك، حيث رغب العالِم الأمريكي في توفير وسيلة رقمية للتبادلات المالية، تحافظ على الخصوصية وتمنع التلاعب، ورغم أن DigiCash أعلنت إفلاسها عام 1998، فإن كثيرًا من أفكارها ظلت أساسًا اهتدى به مبتكرو العملات المشفَّرة في المراحل اللاحقة.
من eCash إلى B-money وBit Gold
بعد eCash، واصل بعض المطورين البحث عن بدائل نقدية رقمية تخلو من المركزية، وظهر مشروع يُدعى "E-Gold" عام 1996، أسّسه دكتور "دوجلاس جاكسون" و"باري داوني"، وارتبط بثمن الذهب.
كان المستخدمون قادرين على تبادل ملكية الذهب رقميًا، غير أنه سرعان ما تحول -على غير رغبة مطوريه- إلى ملاذ للعاملين في سوق الأنشطة غير المشروعة، خصوصًا مع شبه انعدام الرقابة عليه.
ومع ذلك، كانت هناك مشاريع أخرى أكثر تأثيرًا في بناء هيكل مفاهيم العملات المشفرة الحديثة، وأبرزها:
- B-money:
قدّم المبرمج "وي داي" في عام 1998، مشروعًا يصف فيه نظامًا "للنقد الإلكتروني الموزَّع مجهول الهوية"، وكان طموحه بناء شبكة لا تتطلب وسيطًا مركزيًا، مما يتيح للمستخدمين تبادل الأموال، وتنفيذ العقود فيما بينهم دون تدخل طرف ثالث.
- Bit Gold:
ابتكره عالم الكمبيوتر "نِك زابو"، الذي أراد تطوير أصل رقمي نادر يشبه خصائص الذهب الحقيقي، بحيث لا يخضع لسلطة مركزية، ويُستخرج -أو يُعدَّن بصيغة العملات المشفرة- بموجب خوارزميات معقّدة، وعلى الرغم من أنّ Bit Gold لم يتحوّل إلى عملة قابلة للتداول بصورة واسعة، فقد ترك بصمات واضحة في تصميم البيتكوين والبلوكشين.
- Hashcash:
ظهر في منتصف التسعينيات، وكان الغرض الأساسي منه التصدّي للبريد العشوائي والهجمات الإلكترونية الخبيثة، فيما اعتمد على مفهوم "Proof-of-Work" الذي صار فيما بعد جوهر آلية تعدين البيتكوين.
يذكر أن مفهوم "Proof-of-Work"، عبارة عن آلية تتطلب من المُرسل تنفيذ نوع معين من العمليات الحسابية، قبل أن يتمكن من إرسال رسالة إلكترونية، والفكرة هنا هي جعل إرسال الرسائل يتطلب جهدًا حسابيًا، بحيث يصبح إرسال كمية كبيرة من الرسائل أمرًا صعبًا ومُكلفًا، وهذه الطريقة التي تُحارب بها الرسائل المزعجة Spam.
ساتوشي ناكاموتو وولادة البيتكوين
بالعودة إلى موضوعنا الأساسي؛ في أكتوبر 2008، ظهرت وثيقة تحمل الاسم المستعار لمخترع البيتكوين "ساتوشي ناكاموتو"، ولا يزال الغموض يحيط بهوية "ساتوشي" الحقيقية حتى يومنا هذا، وإن كانت هناك تكهنات لا تحصى حول ما إذا كان شخصًا واحدًا أو مجموعة من الأشخاص.
تضمّنت الوثيقة شرحًا مفصّلًا لتقنية "سجل الكتل Blockchain"، التي باتت مألوفة الآن، وعلى عكس الأنظمة التقليدية، لم تعد هناك هيئة مركزية للتحكم أو الإشراف على تحويلات العملات المشفرة.
اقرأ أيضًا: كيف بدأت الطباعة ثلاثية الأبعاد.. غيرت حاضرنا وستغير المستقبل
أول معاملة بالبيتكوين
من القصص الطريفة والمشهورة والحقيقية، أن شخصًا امتلك 10 آلاف قطعة بيتكوين في 2010، ولم يعرف ما الذي يفعله بها، فاشترى قطعتي بيتزا، في ذلك الوقت كان هذا الرقم يساوى حفنة من الدولارات على الأكثر، أما اليوم، فإن 10 آلاف بيتكوين تساوي عشرات الملايين من الدولارات؛ لحسن الحظ أن صاحب هذه القصة لم تُصبه أزمة قلبية؛ على حد ما نعرف!
انتشار العملات البديلة Altcoins
أفسح نجاح البيتكوين الطريق أمام ظهور عملات رقمية أخرى، عُرفت باسم "العملات البديلة Altcoins"، وقد بدأت القصة بظهور عملة سُميت "لايتكوين Lightcoin" عام 2011، والتي صُممت لتقوم على خوارزميات أسرع من البيتكوين، ثم جاءت "ريبل Ripple" و"إيثيريوم Ethereum" وغيرهما لاحقًا، مُقدمين تحسينات متنوعة على مستوى السرعة والأمان.
التمويل اللامركزي: مثال على تطبيقات العملات المشفرة
تطورت العملات المشفرة كثيرًا، وبات لها استخدامات وتطبيقات عديدة، لعل أبرزها "التمويل اللامركزي DeFi"، وهو واحدٌ من أهم التطورات المرتبطة بعملة الإيثيريوم، ويُعد ثورة في عالم الخدمات المالية، حيث يهدف إلى توفير بديل للنظام المالي التقليدي، بحيث يمكن لأي شخص في العالم الوصول إلى الخدمات المالية -مثل الاقتراض- دون بنك أو وسيط مركزي.
الحكومات تدخل على الخط
مع نمو شعبية العملات المشفَّرة وارتفاع قيمتها السوقية، بدأ المشرّعون والمنظمون في مختلف دول العالم يطرحون تساؤلات حرجة حول دور هذه العملات في تمويل الإرهاب وغسل الأموال والتهرّب الضريبي.
وجاء ردّ الحكومات متباينًا؛ فبعض الدول شرعت استخدام البيتكوين وغيرها من العملات الرقمية، بينما آثرت دول أخرى تقييدها أو حظرها بشكل مباشر.
ومؤخرًا، أعلن الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، بنفسه، عن خطة لإنشاء "احتياطي استراتيجي للعملات الرقمية"، وهذه خطوةٌ غير مسبوقة، قد تُعيد تشكيل الكثير من المفاهيم حول هذا النقد الرقمي، وسيشمل هذا الاحتياطي 5 عملات رئيسة هي: البيتكوين، والإيثيريوم، وسولانا، وكاردانو، وXRP.
الجدير بالذكر أن "ترامب" أظهر اهتمامًا متزايدًا بالعملات الرقمية منذ حملته الانتخابية، رغم أنه كان من أشد المنتقدين لها، لكن مع تزايد الدعم السياسي من مستثمري العملات الرقمية، وتدفق التبرعات من مؤيدي البيتكوين، يبدو أن الرئيس الأمريكي قد وجد في هذا القطاع فرصة ذهبية لإعادة رسم ملامح الاقتصاد الأمريكي، فما الذي يُخبئه لنا مستقبل هذه العملات؟ الوقت وحده سيجيب عن هذا السؤال.
