كيف بدأت الطباعة ثلاثية الأبعاد.. غيرت حاضرنا وستغير المستقبل
على عكس طُرق التصنيع التقليدية مثل النحت أو القطع التي تعتمد على إزالة المواد، فإن تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد 3D Printing تعتمد على طريقة مبتكرة، تقوم على إضافة المواد بشكل تدريجي حتى الوصول إلى المنتج النهائي، ولهذا السبب تندرج تحت ما يُسمى بمبدأ "التصنيع بالإضافة Additive Manufacturing".
منذ اليوم الأول الذي ظهرت فيه هذه التقنية وهي تعد بتحولات جذرية، سواء على مستوى القطاع الصناعي، أو القطاعي الهندسي، أو القطاع الطبي والصحي، إلخ، ربما يعرف معظمنا هذا، لكن كيف بدأت الطباعة ثلاثية الأبعاد؟
الطباعة ثلاثية الأبعاد أقدم مما تعتقد!
يمكننا إرجاع أول براءة اختراع لتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد لسبعينيات القرن الماضي، عندما ظهر جهازٌ أُطلق عليه اسم "مُسجّل المعدن السائل Liquid Metal Recorder"، لكنَّ الجذور الحقيقية لفكرة التقنية أقدم من السبعينيات بكثير، ولعل قصة "Things Pass By" التي كتبها كاتب الخيال العلمي الأمريكي "موراي لينستر" في الأربعينيات ستؤكد لك ذلك.
في تلك القصة وصف "لينستر" جهازًا خياليًّا يبدو كأنه من المستقبل، كان الجهاز عبارة عن ذراعٍ آلية تتحرك برشاقة؛ تُغذَّى بمادةٍ بلاستيكية خاصة، فتبدأ برسم أشكال في الهواء، مُستندة إلى تصاميم التقطتها عبر خلايا ضوئية، بينما تتصلب المادة فور خروجها من نهاية الذراع.
تُشبه هذه الفكرة آلية عمل تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد التي نعرفها اليوم، حيث تبدأ العملية بتصميم الشيء المُراد تشكيله على جهاز الكمبيوتر، باستخدام البرامج المُخصصة مثل Auto CAD أو Blender، ومن ثم تتعرف الطابعة أو الجهاز المُخصص على هذا التصميم وتبدأ بتشكيله؛ مثل الذراع التي تخيلتها "لينستر" في الأربعينيات.
الطابعات ثلاثية الأبعاد كفكرة
في الستينيات، وبداخل مختبرات شركة تُدعى Teletype Corporation، ظهرت فكرة عبقرية آنذاك؛ استخدام التكنولوجيا -لأول مرة- في الطباعة بدلًا من الطرق الميكانيكية التقليدية؛ لقد نجحت الشركة المذكورة في صناعة جهازٍ بإمكانه طباعة 120 حرفًا في الثانية -وكان هذا الرقم مذهلًا آنذاك- باستخدام تكنولوجيا نفث الحبر، وهو ما فتح الباب أمام عالم الطباعة المكتبية التي نعرفها اليوم.
لكن ما جعل هذه القصة أكثر إثارة هو ما حدث بعد ذلك، ففي عام 1971، جاء المخترع "يوهانس جوتوالد Johannes F. Gottwald" بفكرةٍ سابقة لأوانها، وهي استخدام معدن منصهر بدلًا من الحبر، ليس لطباعة الحروف وإنما لطباعة المجسمات نفسها عن طريق التصلّب، ومن هنا وُلدت فكرة الطباعة ثلاثية الأبعاد.
براءة اختراع الطابعات ثلاثية الأبعاد
في عام 1980، عزّز باحثٌ ياباني يُدعى "هيديو كوداما Hideo Kodama" من رؤية "جوتوالد"، حيث فكّر في استخدام بوليمر حراري يتصلب عند تعرضه للضوء، ليكون لدينا الآن مادة تنصهر، تشكل طبقات، ثم تتصلب تحت تأثير ضوءٍ مُعين، ونشر "كوداما" أبحاثه في عدة أوراق علمية وحصل على براءة اختراع في نوفمبر 1981، لكن نظرًا لعدم وجود مستثمرين، توقف المشروع!
ومع ذلك، في عام 1982، ولأن البذرة كانت قد زُرِعَت، قدّمت شركة Raytheon الأمريكية، إحدى عمالقة الإلكترونيات والدفاع، براءة اختراع لاستخدام مسحوق معدني لبناء المجسمات طبقة تلو الأخرى، وبعد ذلك بسنتين، قدّم رائد أعمال أمريكي يُدعى "بيل ماسترز Bill Masters" براءة اختراع لعملية تُسمى "التصنيع الآلي المُحوسب Computer Automated Manufacturing"، التي تحدثنا عنها في السطور السابقة، لتظهر عملية الطباعة الثلاثية الأبعاد رسميًّا.
في نفس ذلك العام (1984)، كانت هناك براءة اختراع أخرى في فرنسا تتناول عملية التصنيع الإضافي، باستخدام ما يُسمى بـ"التصوير المُجسم Stereolithography"، وهي طريقة معقدة ومتطورة ودقيقة لبناء المجسمات، ولسوء الحظ، ومثلما حدث مع "كوداما"، لم تلقَ الفكرة اهتمامًا تجاريًا آنذاك، لكنك تعرف ماذا يحدث عندما تُغرَس البذرة!
الطابعة الثلاثية الأولى
في الوقت الذي كانت فيه فكرة الطباعة الثلاثية الأبعاد تتنقل بين براءات الاختراع المُهملة وغير المكتملة، ظهر مخترع ومهندس أمريكي يُدعى "تشاك هال Chuck Hull"، ليأخذ الأمر بجدية ويخترع أول طابعة ثلاثية الأبعاد؛ ليس كفكرة أو كبراءة اختراع، لكن كجهازٍ فعليّ ملموس يصنع المجسمات من لا شيء تقريبًا.
فكرة الجهاز كانت قائمةً على تقنية المعالجة الضوئية للبوليمرات؛ وهي مواد خاصة تتصلب عند تعرضها لضوء معين، سواء كان إشعاعًا، جزيئات نشطة، تفاعلًا كيميائيًّا، أو حتى أشعة الليزر.
نحن ما زلنا في العام نفسه (1984)، الذي أُهملت فيه الكثير من براءات الاختراع الواعدة، لكن هذه المرة لم يترك "هال" فكرته تتلاشى، وظل وراءها حتى أطلقت "3D Systems Corporation" أول جهاز SLA في العالم: SLA-1، الذي يُعد أول جهاز تجاري متطور للطباعة ثلاثية الأبعاد.
بهذا نكون قد تناولنا الموضوع من البداية وحتى الوصول لأول طابعة ثلاثية الأبعاد، وبالطبع لم يتوقف الأمر هنا، وأخذ في التطور الهائل، ولكن حتى لا ننجرف وراء الأجهزة والكلام المُعقد، لننتقل مباشرةً لاستخدامات وتطبيقات الطباعات ثلاثية الأبعاد.
اقرأ ايضًا: تطورات تقنية الطاقة المتجددة.. كيف يمكن للتكنولوجيا أن تنقذ كوكبنا؟
تطبيقات الطباعة ثلاثية الأبعاد
اليوم، تُستخدم تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد في عدد ضخم من المجالات والتطبيقات، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
- الأطراف الصناعية:
حوّلت الطباعة ثلاثية الأبعاد حُلم استعادة القدرة على الحركة إلى حقيقة، حيث بات بالإمكان تصميم طرف صناعي مخصص ليناسب أي شخص، وبدقة مذهلة، وباستخدام برامج التصميم وبمساعدة الكمبيوتر، أصبحت العملية سهلة للغاية، حتى أنك تستطيع التعديل على التصميم كيفما شئت، ودون الحاجة إلى عمليات مُعقدة ومكلفة.
- الزراعات الطبية واستئصال الأورام:
لا تقتصر قدرات الطباعة ثلاثية الأبعاد على تعويض الأطراف، حيث تُستخدم أيضًا في زراعات الأسنان، واستبدال الأعضاء، مثل الركبة، واستئصال الأورام، وحتى تركيب صمامات القلب، والمستقبل يحمل الكثير من المفاجآت والاحتمالات الواعدة؛ وربما نرى هذه التقنية تُصنّع أعضاءً من الصفر، وتَكُون الحل السحري لنقل الأعضاء بسهولة.
- قطع الغيار:
كم مرة تعطلت آلة لأن قطعة غير صغيرة تلفت بها بينما لا تتوافر؟
الطباعة ثلاثية الأبعاد تُنهي هذه المعاناة، إذ أصبح بإمكانك أن تطبع أي جزءٍ تحتاج إليه، متى احتجت إليه، ولم تعد هناك حاجة للانتظار الطويل ولا الجري خلف الوكلاء، فقط تصميم رقمي وطابعة، وهذا كل شيء.
- الأدوية:
هل تخيلت يومًا أن تتلقى دواءً مصنوعًا خصيصًا وفقًا لاحتياجات جسمك أنت؟
تجعل الطباعة ثلاثية الأبعاد هذا ممكنًا، فعلى الرغم من أن هناك دواءً واحدًا فقط تمت طباعته حتى، وهو SPRITAM لعلاج الصرع، فإن الإمكانيات المستقبلية هائلة، وإن طُبّق هذا الأمر بكفاءة، فسيحل مشكلة نقص الدواء الذي سيُصنع محليًا حسب الطلب.
- بناء المنشآت:
عندما تضرب كارثة طبيعية مكانًا ما، يكون الوقت هو العنصر الأهم في المسألة، وتقدم الطباعة ثلاثية الأبعاد حلًا سريعًا لهذه المشكلة، حيث يمكن استخدامها في بناء المنازل، وهناك من يُخطط لاستخدامها في بناء منازل على القمر!، بالإضافة إلى المستشفيات، أو المرافق الطبية أو غيرها من المنشآت في وقتٍ قياسي، لتوفّر للمتضررين مأواهم في أسرع وقت ممكن.
- الملابس المخصصة:
أخيرًا وليس آخرًا، يمكن أن تساعد الطباعة الثلاثية الأبعاد في إنشاء عالمٍ من الموضة؛ مليء بالإبداع وخالٍ من الهدر تقريبًا، حيث تقدم بديلًا ذكيًا يتمثل في الملابس المُصممة حسب المقاس والذوق الشخصي؛ التي تُطبع عند الحاجة وتقلل من النفايات وتجعل الموضة أكثر استدامة.
في النهاية، لا يسعنا إلا أن نُشيد بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، وأن نعترف بأنها ستغير المستقبل حقًا إذا تطورت أكثر وأكثر، وهذا ما نتوقع حدوثه، لكن ربما ليس في الوقت الراهن، فصحيحٌ أن الذكاء الاصطناعي يستطيع تحسين العملية، لكن ليس بالشكل الذي ننتظره، حتى الآن على الأقل.
