خسائر تاريخية تتجاوز تريليون دولار.. كيف زعزعت DeepSeek أركان وادي السيليكون؟

بعد أن كانت الأسهم الأمريكية تسير بأداء شبه مثاليّ طوال العام، جاءت الشركة الصينية الناشئة "ديب سييك DeepSeek" على حين غرة، وكبدتها خسائر فاقت التريليون دولار!
وفي خضم هذا التحول المفاجئ، بدأ صعود بوت الدردشة الجديد العامل بالذكاء الاصطناعي، وبديل ChatGPT القوي، DeepSeek، ككابوسٍ مُفزعٍ بالنسبة لشركات وادي السيليكون، وعلى رأسها "أوبن آي إيه OpenAI" والعملاقة "انفيديا Nvidia"، التي خسرت مئات المليارات من الدولارات في غضون 24 ساعة فقط!
لقد هزَّ الصعود السريع لتطبيق DeepSeek أسواق الأسهم الأمريكية كزلزالٍ مفاجئ، حيث شهدت الأيام الماضية انخفاضات حادة، تسببت بهروب المستثمرين من قطاع التكنولوجية برمته، ما أسفر عن خسارة الرقم المذكور، التريليون دولار، وذلك بسبب المخاوف المتزايدة حول تطبيق الذكاء الاصطناعي الجديد التابع للصين.
في الداخل الأمريكي، أنهت Nvidia تداولاتها بانخفاضٍ بلغ 16.9% من قيمة أسهمها، بينما تراجعت الشركة المنافسة لها في السوق "برودكوم Broadcom"، بنسبة 17.4%، فيما طال هذا التأثير شركات أخرى أيضًا مثل "مايكروسوفت Microsoft" بنسبة 2.14% و"ألفا بت Alphabet" (الشركة الأم لـGoogle) بأكثر من 4%.
ويتضح أن الخسارة الأكبر كانت من نصيب شركة Nvidia، التي تُعد واحدة من أكبر شركات العالم، بل كانت الأكبر، حيث تخطى النزيف الـ17%، وتراجع سعر السهم إلى 118.03 دولار، مما جرّ أسهم شركات الذكاء الاصطناعي التي تعتمد على بطاقات Nvidia الرسومية معها.
لقد خسرت Nvidia نحو 593 مليار دولار من قيمتها السوقية، وهذا رقمٌ قياسي في يومٍ واحد؛ تخطى الخسارة التي تعرضت لها الشركة في سبتمبر الماضي.
من أين أتت DeepSeek؟

من ينظر لتاريخ الشركات التقنية في الصين، سيعتقد أن مشروع DeepSeek ينتمي لإحدى الشركات العملاقة: مثل: Baidu أو DyteDance (الشركة الأم لـ TikTok) أو Alibaba، خاصةً أننا نتحدث عن شركة ناشئة أُسست حديثًا، واستطاعت أن تهز عرش وادي السيليكون، لكن الحقيقة مغايرة لذلك تمامًا.
فقد تأسست شركة DeepSeek في عام 2023، على يد صندوق التحوط High-Flyer؛ الذي أسسه رائد الأعمال "ليانج ونفنج" في عام 2015، واستطاع "ليانج"، الذي جمع ثروةً باستخدام الذكاء الاصطناعي والخوارزميات في تحليل أداء الأسهم، أن يُحول الصندوق إلى قوة استثمارية ضاربة، حيث جذب أكثر من 100 مليار يوان (نحو 15 مليون دولار) في وقتٍ سابق، ورُغم تراجع هذا الرقم إلى نحو 8 مليارات دولار منذ عام 2021، فإن High-Flyer لا يزال يحتفظ بمكانته كأحد أهم صناديق التحوط في البلاد.
ومنذ بداياته، كان نشاط High-Flyer يتقاطع مع تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، فقد تراكمت لديه وحدات معالجة الرسوميات (كروت الشاشة) GPUs عبر السنوات، ما مكّنه من إنشاء حواسيب خارقة، تُعرف باسم Fire-Flyer لتحليل البيانات المالية. ومع تزايد شعبية ChatGPT، روبوت المحادثة الأشهر الذي أنتجته شركة OpenAI الأمريكية، قرر "ليانج" -الذي يحمل درجة الماجستير في علوم الحاسب- أن يستثمر موارد الصندوق في شركة جديدة تُدعى DeepSeek، تهدف إلى تطوير نماذج متقدمة، والعمل على الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام AGI.
وفي مقابلة مع صحيفة 36Kr التقنية الصينية، أوضح "ليانج" أن دافع تأسيس DeepSeek كان الفضول العلمي البحت وليس الربح التجاري، فقد قال: لم أجد سببًا تجاريًا لبدء DeepSeek حتى وإن طُلب مني ذلك، مؤكدًا أن البحث الأساسي عادةً ما يكون ذا عائد استثماري منخفض، وأضاف أن المستثمرين الأوائل لشركة OpenAI ربما لم يكونوا يحسبون العوائد المالية، بل كانوا مدفوعين برغبة حقيقية في خوض هذا المجال.
R1: نموذج DeepSeek الذي قلب الموازين
مكَّن شغف الباحثين في DeepSeek من تطوير نموذجٍ يضاهي أحد أقوى النماذج الموجودة على الإطلاق -إن لم يكن أقواها- وهو نموذج o1 من OpenAI، لكن المُبهر أن نموذج R1 مفتوح المصدر، وفي نفس الوقت يتفوق على o1 في العديد من الاختبارات، وفقًا لتقارير عديدة.
وبينما يشتكي "سام ألتمان"، الرئيس التنفيذي لـ OpenAI، من تكاليف o1 التشغيلية، وأن الشركة لا تُحقق الأرباح المرجوة منه، رُغم أن استخدامه يستوجب الاشتراك المدفوع، استطاعت DeepSeek أن تُتيح نموذجها الجبار مجانًا للجميع، كاشفةً أن تكاليف تطويره أقل بنسبة 90-95% من o1!
يُمثل نموذج R1 خطوة نوعية في ميدان المصادر المفتوحة، حيث يوضح أن النماذج المفتوحة أصبحت تضيق الفجوة تدريجيًا مع النماذج التجارية المغلقة، وهذا في صالح عامة المستخدمين.
وللتأكيد على قوة نموذجهم، استخدم فريق DeepSeek نموذج R1 لاستخلاص ستة نماذج من عائلة Llama وQwen، ما رفع من مستوى أدائها، ففي إحدى التجارب، تفوّق النموذج المستخلص من Qwen-1.5B على نماذج أكبر حجمًا مثل GPT-4o وClaude 3.5 Sonnet في اختبارات رياضية محددة.
اقرأ أيضًا: الذكاء الاصطناعي يتصدر.. قائمة أسرع الوظائف نموًّا لعام 2025
كيف فعلتها DeepSeek؟

عند تجميع فريق البحث والتطوير لشركة DeepSeek، لم يتوجه "ليانج" إلى استقطاب المهندسين ذوي الخبرة في صناعة المنتجات الاستهلاكية، بل اختار طلاب الدكتوراه من الجامعات الصينية الرائدة، مثل: "جامعة بكين" و"جامعة تسينغهوا" و"جامعة بيهانغ"، وهؤلاء الطلاب الذين كانوا يتوقون لإثبات قدراتهم، كانوا يمتلكون سجلًا حافلًا بالنشر في مجلات علمية مرموقة، مع فوزهم بجوائز في مؤتمرات دولية، رغم غياب الخبرة الصناعية لديهم، كما أفادت مجلة QBitAI التقنية الصينية.
وقال "ليانج" في مقابلة عام 2023: معظم من شغلوا المناصب التقنية الرئيسة في شركتنا تخرجوا هذا العام، أو في العامين الماضيين، معتبرًا أن الشباب يمتلكون القدرة على تكريس جهودهم لمشاريع بحثية ضخمة، دون اعتبار للمنافع المادية الفورية، ودعا الموظفين المحتملين إلى الانضمام إلى فريق DeepSeek، مؤكدًا أن الهدف هو "حل أصعب الأسئلة في العالم".
ربما اضطُر "ليانج" إلى اتباع هذا النهج بسبب قواعد الحكومة الأمريكية الصارمة، التي تحد من بيع رقاقات الذكاء الاصطناعي المتطورة إلى الصين، خوفًا من تفوقها في الذكاء الاصطناعي، لكن أيًّا كان السبب، فشركة DeepSeek استطاعت أن تُثبت أن "سام ألتمان" وغيره من أشهر المستثمرين في قطاع الذكاء الاصطناعي ينتهجون الطريق السهل في تطوير الذكاء الاصطناعي، وهو الاتكاء على التسهيلات المالية والتقدم التقني في قطاع البطاقات الرسومية، بدلًا من البحث العلمي والاستغلال الأمثل للموارد.
وبالعودة إلى DeepSeek ونموذجها القوي R1، فإن العمل عليه لم يكن سهلًا كما قد يتصور البعض، لكن بغض النظر عن التفاصيل التقنية المعقدة، فإن الباحثين استطاعوا تطوير النموذج بتكلفة مذهلة، فبينما يُكلّف نموذج OpenAI o1 نحو 15 دولارًا لكل مليون وحدة إدخال، و60 دولارًا لكل مليون وحدة إخراج، فإن DeepSeek R1 يُكلّف 0.55 دولار لكل مليون وحدة إدخال، و2.19 دولار لكل مليون وحدة إخراج.
ماذا نستنتج من ذلك؟
نستنتج أن الشركات الأمريكية، مثل OpenAI وOracle وSoftBank التي استثمرت 500 مليار دولار في مشروعٍ مثل Stargate، وغيرها من الشركات الأمريكية المهتمة بالذكاء الاصطناعي عمومًا، تتخذ الطريق السهل فعلًا بدلًا من إعطاء الأولوية للبحث والتطوير كما فعلت DeepSeek، ومن ثم على الشركات الأمريكية أن تُراجع نفسها إذا أرادت أن تستمر في الصدارة.
بينما تتميز شركة DeepSeek بالجمع بين الأداء العالي والتكلفة المنخفضة التي تُمكنها من إتاحة أنظمتها بشكلٍ مفتوح المصدر للمستخدمين.
ولعل باستمرار الوضع على ما هو عليه، فلن يكون من المستغرب أن نرى الموازين تنقلب، والصين تتخطى الولايات المتحدة في سوق الذكاء الاصطناعي، الذي على ما يبدو أن من سيحكمه سيحكم العالم في المستقبل، بانتظار ما سيحدث في الأيام والشهور القليلة القادمة، التي نتوقع أن تكون مليئة بالأحداث المثيرة، وعلى كل حال، فإن المنافسة ستنعكس إيجابًا على المستهلكين، حيث ستتسابق كل شركة لتقديم أفضل ما لديها بأفضل خطة ممكنة.