إسدال الستار على أسطورة الحلبة: تيرينس كروفورد يودّع الملاكمة
قلّما يشهد التاريخ الرياضي لحظة يختار فيها بطل اعتزال الحلبة وهو في ذروة مجده، بلا هزيمة ولا تراجع.
ولكن هذه المرة كان الاستثناء باسم تيرينس كروفورد، بطل الوزن المتوسط الذي قرر وضع حد لمسيرته الأسطورية وهو في أوج قوته عن عمرٍ بلغ 38 عامًا.
هذا الاسم الذي هيمن على الحلبات لأكثر من 17 عامًا، وارتبطت به عناوين القوة والانضباط، اختار أن يطوي الصفحة الأخيرة من مسيرته وهو في أوج عطائه، بلا هزيمة، وبلا تراجع في المستوى أو الدافع.
تيرينس كروفورد يختار الانسحاب من القمة
جاء إعلان الاعتزال عبر مقطع مصوّر نشره كروفورد على قناته في يوتيوب، قال فيه بكلمات عكست مزيجًا من الهدوء والنضج: "يعلم كل ملاكم أن هذه اللحظة ستأتي، نحن فقط لا نعرف متى. قضيت حياتي كلها أطارِد شيئًا، ليس الأحزمة أو المال أو العناوين، بل ذلك الشعور.. الشعور الذي ينتابك عندما يشكّ العالم فيك، ومع ذلك تستمر في الظهور لتثبت خطأ الجميع".
بهذه العبارة لخّص كروفورد فلسفته التي ميّزت مسيرته، فالدافع لم يكن الألقاب ولا المجد الإعلامي، بل تحدّي الشكوك التي لازمته منذ بداياته. وبعد أن ردّ على كل من قلّل من قدراته وأثبت مكانته كأحد أعظم الملاكمين في جيله، رأى أن الوقت قد حان ليغادر بصمته الأخيرة وهو في القمة.
بعد هذه الكلمات، بدت نبرة كروفورد هادئة وواثقة كما لو أنه يعيش مصالحة كاملة مع مسيرته. الرجل الذي بنى إرثه بالاحترام والاجتهاد قرر أن النهاية ليست هزيمة، بل شكل آخر من أشكال النصر. أراد أن يترك الحلبة كما دخلها: منتصرًا ووفيًا لمبادئه.
ليختتم رسالته بجملة حملت امتنانًا عميقًا لتلك الرحلة الطويلة: "هذه الرياضة منحتني كل شيء. قاتلت من أجل عائلتي، من أجل مدينتي، ومن أجل الطفل الذي كنت عليه، الذي لم يملك سوى حلم وقفازات. وقد فعلت كل شيء بطريقتي الخاصة".
بهذا الوداع، يطوي تيرينس كروفورد صفحة نادرة في تاريخ الملاكمة، صفحة بطل أنهى مسيرته بلا خسارة، لكنه اختار الرحيل حين شعر أنه قال كل ما يمكن قوله داخل الحلبة.
إنجازات كروفورد في عالم الملاكمة
منذ بدايته عام 2008، ظل كروفورد يبني سمعته نزالا بعد آخر حتى صار أحد أبرز المقاتلين في جيله وأكثرهم تأثيرًا في أسلوب اللعب وتطوره.
هذا الثبات المتدرّج لم يكن مصادفة، بل نتيجة فلسفته القائمة على الإعداد الذهني والانضباط التكتيكي قبل أي شيء آخر، وهي مقومات تُرجمت إلى سلسلة من الإنجازات الاستثنائية.
على مدى نحو عقدين، حصد كروفورد 18 لقبًا عالميًا في خمس فئات مختلفة من الأوزان، في إنجاز لا يتحقق إلا لقلة استطاعت الجمع بين القوة البدنية والذكاء الفني في إدارة المسيرة.
مع كل انتقال إلى فئة جديدة، كان النجاح يعيد نفسه، إذ أظهر قدرة استثنائية على التكيّف مع اختلاف خصومه وتنوّع مدارسهم، محافظًا على إيقاعه العالي ودقته الهجومية التي دفعت خصومه للبقاء في موقع الدفاع الدائم.
فيما يُجسد سجله الخالي من الهزائم (42 فوزًا من دون أي خسارة) هذا التفوق بكل معانيه، فجميع انتصاراته جاءت إما بالضربة القاضية أو بقرار إجماعي من الحكام، من دون أن يمنح منافسيه فرصة لانتزاع تفوق ولو رمزي في أي مرحلة من مسيرته. هذه السيطرة الشاملة جعلته مرجعًا فنيًا في الكمال والانضباط داخل الحلبة.
وقد جاء فوزه كروفورد الأخير على كانيلو ألفاريز قبل ثلاثة أشهر تتويجًا منطقيًا لتلك المسيرة، في أحد أكثر النزالات تداولاً في العقد الأخير. قدّم كروفورد خلالها أداء يعكس نضجه الكامل وثقته التي لم تهتز، ليكتب الفصل الختامي من حكايته بأناقة الأبطال، تاركًا الحلبة بالطريقة ذاتها التي دخلها: واثقًا، متزنًا، ومنتصرًا.
اقرأ أيضًا: كريس يوبانك جونيور يعلن اعتزال الملاكمة مؤقتًا.. ما القصة وراء القرار المفاجئ؟
ثروة تيرينس كروفورد
لم يقتصر إرث تيرينس كروفورد على إنجازاته الرياضية فحسب، بل امتدّ إلى ثروة مالية ضخمة جمعها عبر سنوات من التفوق داخل الحلبة.
فالملاكم الأمريكي الذي اعتاد ترجمة انتصاراته إلى أرقام قياسية في الأرباح، تمكّن من تكوين ثروة تقدر بنحو 30 مليون دولار مع نهاية مسيرته، معظمها من نزالاته الكبرى التي جذبت الملايين من المشاهدين حول العالم.
ومن بين أبرز تلك المواجهات، نزال كروفورد التاريخي أمام إيرول سبنس جونيور في عام 2023، الذي اعتُبر من أكثر النزالات متابعة في العقد الأخير.
في تلك المواجهة التاريخية، حصل كل طرف على ضمان مالي لا يقل عن 10 ملايين دولار، فيما بلغت حصة كروفورد الكلية نحو 25 مليون دولار بعد إضافة مكافآت البث المباشر وحصص الشراكات الدعائية.
تكرر الأمر كذلك في سبتمبر 2025، عندما واجه كروفورد نجم الوزن المتوسط سول كانيلو ألفاريز، دخل الحلبة وهو ضامن لعائد لا يقل عن 10 ملايين دولار قبل احتساب المكافآت المرتبطة بالبث والجمهور، ما جعلها واحدة من أكثر نزالات العام مردودًا ماليًا.
بهذه الأرقام، يُغادر كروفورد عالم الملاكمة بثروة تُجسّد مسيرة احترافية نادرة جمعت بين الكمال الفني والنجاح الاقتصادي، مودّعًا الحلبة كما عاشها، في الصدارة، رياضيًا وماليًا على السواء.
