الرّجل في يومه العالميّ: بين بزوغ الفكرة وتوهّج الاحتفاء
لم يعد الرجلُ اليوم ذلك الظلّ المعلّق بين قوةٍ مفترضة وصمتٍ طويل، فقد خرج من إطار الدور الجاهز ليعيد رسم ملامح هويته في عالمٍ يتغيّر بسرعة الضوء. هو رجلٌ يبحث عن نفسه بين ضجيج التوقعات وتقلّبات الحياة، يحمل أحلامه بيد، ومسؤولياته العميقة باليد الأخرى، ويسعى بخطى متردّدة أحيانًا وواثقة أحيانًا أخرى، إلى لحظة توازن تمنحه حقه في الإنسانية قبل أي شيء آخر.
ومع اشتداد إيقاع الزمن وتعاظم التحوّلات من حوله، تتكاثر الضغوط التي تلاحقه من كل اتجاه، فيجد نفسه وجهًا لوجه مع تحديات تتخطّى المهنة والمكانة، وتتسلل إلى أعماق روحه، لتختبر قدرته على الصمود، ومرونته في التأقلم، وحاجته لأن يرى نفسه بعيدًا من الحكم القاسي أو التوقع المبالغ فيه.
في هذا المشهد المتسارع، يطلّ اليوم العالمي للرجل في التاسع عشر من نوفمبر، لا بوصفه احتفاءً عابرًا، بل كنافذة تعيد فتح الأسئلة الكبرى: كيف يعيش الرجل حقًا؟ ما الذي يثقل قلبه؟ وما الذي يمنحه قوته؟ إنها لحظة يتحرّر فيها الحديث عن الرجل من الصور المعلّبة، ليعترف بضعفه كما يكرّم صلابته، ويمنحه مساحة يستعيد فيها صوته ودوره، مساهمًا في بناء مجتمع أكثر وعيًا، ولُحمةً، وإنصافًا.
تحديات الرجل في العصر الحديث
يعيش الرجل في العصر الحديث تحت وطأة مجموعة متشابكة من التحديات التي تتجاوز حدود الالتزامات المهنية أو الاقتصادية، لتطال أعماق توازنه النفسي والعاطفي.
ففي ظل المتغيرات الاجتماعية السريعة وتبدّل الأدوار داخل الأسرة وسوق العمل، يجد العديد من الرجال أنفسهم مطالبين بالحفاظ على صورة القوة والثبات حتى في لحظات الضعف، ما يجعلهم أقل ميلاً للتعبير عن مشاعرهم أو طلب الدعم النفسي عند الحاجة.
ومع تزايد هذه الضغوط والتحولات، برزت الحاجة إلى يوم يُعاد فيه النظر في كل ما يحمله الرجل من أعباء ومسؤوليات صامتة.
فجاء اليوم العالمي للرجل ليكون مساحة حوار مفتوحة ووقفة تقدير مستحقة، تهدف إلى كسر الصمت حول قضايا الصحة النفسية والاجتماعية، وتقديم الدعم للرجال في مختلف مراحل حياتهم.
جذور الاحتفال باليوم العالمي للرجل
تعود جذور اليوم العالمي للرجل إلى تسعينات القرن الماضي حين بدأت النقاشات تدور حول الحاجة إلى مناسبة تكرّس للاعتراف بدور الرجل في المجتمع وتناقش قضاياه بموضوعية بعيدًا من الصور النمطية.
وفي عام 1999، شهدت ترينيداد وتوباغو إعلان الاحتفال رسميًا بهذا اليوم بمبادرة من الدكتور جيروم تيليكسنغ، ليصبح منذ ذلك الحين حدثًا عالميًا يزداد زخمًا عامًا بعد آخر.
لم يكن الهدف مجرد تكريم رمزي، بل فتح باب الوعي لمناقشة القضايا التي تؤثر على الرجل نفسيًا وصحيًا واجتماعيًا، وتشجيعه على طلب الدعم من دون تردد.
ومع انتشار الفكرة في مختلف القارات، تحوّل اليوم العالمي للرجل إلى مساحة حوار تجمع بين الأفراد والمؤسسات لتسليط الضوء على المساواة الحقيقية بين الجنسين، وتمكين الرجال من المشاركة في بناء مجتمع أكثر وعيًا وتوازنًا.
كما أصبح مناسبة للاحتفاء بإنجازاتهم في مجالات السياسة، العلوم، الفنون والرياضة، جنبًا إلى جنب تقدير مساهماتهم في تطوير الأسرة والاقتصاد، في وقت يواجه الرجل الكثير من متغيرات والضغوط الجديدة التي فرضتها وتيرة الحياة المعاصرة.
احتفالات عالميّة ومبادرات محلّية
تتنوّع مظاهر الاحتفال باليوم العالمي للرجل حول العالم لتجسّد عمق الفكرة وأهميتها المتزايدة. ففي العديد من الدول، تتحول المناسبة إلى منصة للنقاش والوعي المجتمعي من خلال فعاليات ثقافية ورياضية تجمع بين المتعة والفكر، وتُسلّط الضوء على مفاهيم الصحة النفسية والرفاه العاطفي للرجال.
كما تنظم مؤسّسات طبية ومراكز بحثية مؤتمرات وورش عمل تركز على الوقاية من الأمراض المزمنة التي تهدد صحة الرجل مثل أمراض القلب والسكري والاكتئاب، مع الدعوة إلى تبني أنماط حياة صحية ومتوازنة.
وتبرز في بلدان أخرى مبادرات إنسانية فريدة موجهة لدعم الرجال من ذوي الاحتياجات الخاصة أو أولئك الذين خاضوا معارك صحية أو مهنية طويلة، تقديرًا لصبرهم ومثابرتهم.
أما على الصعيد الرقمي، فتتحول منصات التواصل الاجتماعي في هذا اليوم إلى ساحة تعبير عالمي، يشارك فيها الرجال والنساء معًا قصصهم وتجاربهم ورسائلهم الداعية إلى إعادة النظر في الصورة النمطية للرجل، وتأكيد أن قوته الحقيقية تكمن في توازنه الإنساني وقدرته على التعاطف والتعبير.
اقرأ أيضًا: في اليوم العالمي للإنسانية.. مسيرة العطاء السعودية متواصلة
حقائق مدهشة عن الرجال حول العالم
المخاطرة غريزة راسخة
ارتفاع مستويات هرمون التستوستيرون لدى الرجال لا يقتصر على تأثيره في القوة البدنية أو عمق الصوت فحسب، بل يمتد ليغذّي الميل إلى خوض المغامرات واتخاذ قرارات تنطوي على قدر من المجازفة. هذه السمة، رغم كونها محفزًا للإنجاز، تجعل الرجال أكثر عرضة للحوادث والإصابات في مواقف متعددة.
أثر النشاط البدني في المزاج
توصلت أبحاث في أستراليا إلى أن المزاج العام للرجل يتحسّن بوضوح بعد ممارسة نشاط بدني كالركض أو التمارين الخفيفة، وأن هذا التحسن لا يرتبط فقط بالصحة الجسدية، بل أيضًا بالتحرر من الضغوط اليومية.
الفحوص الطبية المؤجّلة
لطالما عُرف الرجال بتأجيلهم المتكرر للفحوص الطبية الدورية رغم إدراكهم أهميتها. وتُعزى هذه الظاهرة إلى مزيج من العادات الاجتماعية التي تجعل طلب المساعدة أمرًا صعبًا. لذا أطلقت مؤسسات صحية عدة حملات خاصة لتشجيعهم على تبنّي سلوك وقائي أكثر وعيًا.
السعادة في أحضان الطبيعة
معدلات سعادة الرجال ترتفع بوضوح عند قضاء الوقت في الهواء الطلق أو المشاركة في أنشطة طبيعية بسيطة مثل المشي والصيد، ما يعكس ارتباطًا فطريًا بين الرجل والطبيعة.
ذاكرة الاتجاهات
كشفت دراسات في بريطانيا عن قدرة لافتة لدى الرجال على تذكر الطرق والمعالم بعد المرور بها مرة واحدة فقط، وهي مهارة تطورت مع الوقت لتصبح أحد المظاهر الطريفة المرتبطة بثقة الرجل في معرفته للطريق، رغم رفضه أحيانًا الاستعانة بالمساعدة.
تناغم القلب مع موسيقى المرأة
أظهرت دراسات طريفة أن معدّل نبض الرجل قد يتزامن تلقائيًا مع صوت المرأة التي ينجذب إليها، حتى من دون أن يلاحظ ذلك.
طقوس خاصّة
من الوقوف في نفس المكان عندما يتحدثون على الهاتف، إلى قيادة السيارة بالمسار نفسه دائمًا، الرجال يحبون "مساراتهم" اليومية الثابتة بشكل مذهل.

أساسيّات الرجل تحاكي نفسها. المصدر: LifestyleAsia
عالم متكامل
يبقى الرجل، بكل ما يحمله من قدرات وطباع فريدة، كائنًا يستحق التأمل أكثر مما يستحق الأحكام المسبقة. فخلف كل حقيقة مدهشة عنه، عالمٌ كامل من التفاصيل التي لا نراها، وتجارب تشكّل صورته المعقّدة في هذا العالم المتغيّر. وربما يكمن جمال الأمر في أن الرجال، مهما ظنّنا أننا نعرفهم، ما يزالون قادرين على إدهاشنا دائمًا، بطرق غير متوقّعة.
