من باريس إلى جنيف.. كيف يهرب أثرياء فرنسا من قبضة الضرائب؟
يشهد القطاع المالي الفرنسي حالة من الهجرة الاستثمارية غير المسبوقة، إذ يعمد كبار رجال الأعمال والعائلات الثرية إلى تحويل أموالهم إلى ملاذات مالية آمنة في كل من لوكسمبورغ وسويسرا. وتأتي هذه التحركات في ظل تزايد الضغوط الضريبية وعدم اليقين السياسي الذي يخيّم على فرنسا منذ الدعوة إلى الانتخابات التشريعية المبكرة في يونيو 2024.
مسجل في تاريخ البلاد. ويُرجع محللون هذه القفزة إلى الخشية من السياسات الضريبية الجديدة التي تسعى حكومة رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو، المقرب من الرئيس إيمانويل ماكرون، إلى تطبيقها بهدف سد عجز مالي يقدّر بـ 2.5 مليار يورو من خلال فرض ضرائب إضافية على نحو 20 ألفًا من كبار الأثرياء والشركات القابضة.
ورغم أن ماكرون لم يعلن رسميًا عن إعادة ضريبة الثروة الشاملة التي ألغاها في 2018، فإن مجرد طرح الفكرة من قِبل أحزاب اليسار خلق حالة من القلق العميق في الأوساط الاقتصادية، دفعت الكثيرين إلى البحث عن خيارات خارجية تحفظ ثرواتهم.
أفضل الملاذات الضريبية للأثرياء الفرنسيين في أوروبا
برزت لوكسمبورغ كأولى الوجهات المفضلة للأثرياء الفرنسيين بفضل عقود التأمين على الحياة التي توفر مرونة مالية عالية، دون أن تُعتبر تهربًا ضريبيًا مباشرًا. وتبدأ الحد الأدنى لهذه العقود من 250 ألف يورو، ما يجعلها حكرًا على أصحاب الثروات الكبيرة، كما تمنح أصحابها حرية الاحتفاظ بالأموال خارج فرنسا وإعادة توجيهها في حال تفاقمت الأزمة السياسية أو الاقتصادية.
أما سويسرا، فتبقى الملاذ الأكثر أمانًا بفضل استقرارها السياسي ومكانتها المصرفية العالمية. وأوضح المحامي السويسري فيليب كينيل في تصريحات لـ"فاينانشال تايمز" أن العديد من الأثرياء الفرنسيين يبحثون عن أنظمة ضريبية خاصة للإقامة أو فتح حسابات استثمارية طويلة الأمد، مشيرًا إلى أن "المسألة لم تعد تتعلق بالضرائب فحسب، بل بالاستقرار الذي توفره سويسرا".
هذا التحول يعكس تراجع ثقة النخبة المالية الفرنسية في بيئة الاستثمار المحلية، مقابل إقبال متزايد على وجهات مثل إيطاليا، التي تمنح إقامة ضريبية ميسّرة رغم رفع الضريبة المقطوعة على الدخل الأجنبي إلى 300 ألف يورو سنويًا، إضافة إلى إسبانيا والبرتغال اللتين برزتا كبدائل جديدة ضمن خارطة الملاذات الأوروبية للأثرياء.
أسباب تحويل أموال الفرنسيين إلى سويسرا
تثير موجة النزوح المالي الحالية مخاوف كبيرة في باريس من تآكل القاعدة الضريبية وضعف قدرة الحكومة على تمويل استثماراتها الداخلية. كما تحقق دول مثل لوكسمبورغ وسويسرا مكاسب ضخمة من تدفق الأموال والاستثمارات، مما يعزز مكانتهما كوجهات مالية أوروبية مهيمنة.
ويحذر خبراء الاقتصاد من أن استمرار هذا التوجه قد يتحول إلى هجرة فعلية للأثرياء، خصوصًا إذا تصاعدت التوترات السياسية، وهو ما سيعمّق ما يُعرف بـ"معضلة الضرائب مقابل الاستقرار".
اقرأ أيضاً عالم الأثرياء الجويّ.. أيهما أفضل: "جلف ستريم" أم "بومباردييه"؟
تاريخيًا، شهدت فرنسا موجات مشابهة من خروج رؤوس الأموال بين عامي 1980 و 2010 باتجاه سويسرا، قبل أن تتراجع مؤقتًا مع انتخاب ماكرون عام 2017 بفضل وعوده بالإصلاح الاقتصادي. غير أن عودة الاضطرابات السياسية وضعف الثقة في الاقتصاد الفرنسي أعادا إحياء الظاهرة بقوة في عام 2024، لتفتح الباب مجددًا أمام إعادة رسم خريطة الثروة الأوروبية في السنوات المقبلة.
