كيف تُعيد السعودية رسم خريطة الرعاية الصحية بالذكاء الاصطناعي؟
يُعد الجمع بين التقنيات الصاعدة مثل الذكاء الاصطناعي والرعاية الصحية أحد أكثر الموضوعات إثارة في وقتنا الحاضر، حيث يعرف الذكاء الاصطناعي على أنه قدرة الآلات على محاكاة الذكاء البشري، وأداء المهام التي عادة تتطلب الإدراك البشري.
وفي هذا السياق، اختارت المملكة العربية السعودية ألا تكون متفرجًا في سباق الذكاء الاصطناعي الطبي، بل شريكًا فاعلاً فيه، حيث أطلقت المملكة ضمن رؤية السعودية 2030، عددًا من المبادرات الوطنية الطموحة، وعلى رأسها الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي "سدايا SDAIA"، التي تهدف إلى تسخير الذكاء الاصطناعي في خدمة القطاعات الحيوية، وفي مقدمتها القطاع الصحي.
استراتيجية وطنية متكاملة للذكاء الاصطناعي في الصحة
في عام 2023، أعلنت المملكة عن أول استراتيجية وطنية متكاملة للذكاء الاصطناعي في الصحة، ترتكز على ثلاث ركائز رئيسية:
- ربط السجلات الصحية إلكترونيًا لبناء قاعدة بيانات موحدة على مستوى المملكة
- تطوير منصات تشخيص ذكية مدعومة بالخوارزميات لتسريع ودقة اتخاذ القرار الطبي
- تدريب الكوادر الطبية السعودية على التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي كجزء من إعادة هندسة مهنة الطب
كما لم تقف السعودية عند حدود التطبيقات التقنية، بل انخرطت أيضًا في النقاش الأخلاقي العالمي، إذ أصبحت الدولة العربية الأولى التي تستضيف مؤتمرات دولية متخصصة بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي الطبي، بينما تشارك بفاعلية في صياغة الأطر التنظيمية والتشريعية التي تسعى لضمان استخدام عادل وآمن للخوارزميات بالمجال الصحي، الأمر الذي يؤكد أن السعودية لا تسير على خطى أحد، بل تمهد طريقًا ثالثًا يجمع بين التحول الرقمي الجريء والضوابط الأخلاقية الرصينة.
إن دمج الذكاء الاصطناعي مع الرعاية الصحية لديه القدرة على تغيير طريقة تقديم الرعاية الصحية وإدارتها، ليكون نظامًا صحيًا شاملاً وفعالاً ومتكاملاً، حيث يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي في تحليل كميات كبيرة من البيانات، وتحديد الأنماط، وحتى إجراء تنبؤات لنتائج المرضى المستقبلية.
الرعاية الصحية والذكاء الاصطناعي في المملكة
تتضمن خطة رؤية 2030، التي أطلقتها الحكومة السعودية في العام 2016، استراتيجية شاملة لتحويل نظام الرعاية الصحية، تهدف إلى إنشاء نظام رعاية صحية أكثر تركيزًا على المريض، كما تؤكد على أهمية الرعاية الصحية الوقائية، والتثقيف الصحي، وخفض تكاليف الرعاية الصحية.
ويتضمن البرنامج عدة أهداف، مثل زيادة عدد مقدمي الرعاية الصحية، وتعزيز البنية التحتية للرعاية الصحية، وتطبيق تقنيات الرعاية الصحية الجديدة، كما تهدف إلى جعل المملكة واحدة من أكثر البلدان كفاءة بمجال الرعاية الصحية.
ويعد الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية جزءًا مهمًا من رؤية 2030، حيث تم إنشاء "SDAIA" لهذا الغرض، والمركز الوطني للقيادة والتحكم في الرعاية الصحية "NHCCC".
ووفقًا لتقرير مؤشر الذكاء الاصطناعي لعام 2023، الصادر عن جامعة ستانفورد، فإن السعودية تتمتع بثاني أكبر قدر من المعرفة والوعي بفوائد الذكاء الاصطناعي من بين الدول.
وكجزء من استراتيجية رؤية 2030، عُقدت القمة العالمية الأولى للذكاء الاصطناعي في سبتمبر 2020، تحت رعاية الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد السعودي ورئيس مجلس الوزراء، وخلال هذه القمة وقعت المملكة اتفاقيات استراتيجية مع IBM وAlibaba وHuawei، وشركات أخرى، لتطوير إطار عالمي يدعم التعاون الدولي بمجال الذكاء الاصطناعي.
وتوالت بعدها العديد من اللقاءات والمؤتمرات، أهمها قمة الرياض العالمية للتقنيات الحيوية الطبية سبتمبر 2021، كما عُقدت قمة الرياض العالمية للذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية في الرياض مارس 2022، حيث اجتمع كبار علماء الذكاء الاصطناعي والمديرون التنفيذيون وقادة الأعمال من جميع أنحاء العالم، لمناقشة أحدث أبحاث وتقنيات الذكاء الاصطناعي، ولاستكشاف إمكانات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والتعلم العميق بمجال الرعاية الصحية.
وتجدر الإشارة إلى أن ما تشهده المملكة من تطور كبير في البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات، ومعدات المنظمات الطبية، سيساعد بشكل كبير في التنفيذ الشامل لأنظمة المعلومات الطبية.
السعودية تسخر تقنيات AI لخدمة المجال الطبي
في أكتوبر 2022، نجحت مجموعة الدكتور سليمان الحبيب الطبية، في تفعيل استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي "AI"، وتسخيرها في خدمة المجال الطبي بشكل متميز، كأول القطاعات الصحية الخاصة بالمملكة العربية السعودية، وذلك ضمن استراتيجية المجموعة الرامية لمواكبة آخر التطورات العلمية والبحثية والتكنولوجية، وتمكن هذه الخوارزميات اكتشاف أورام الثدي والجلطات الدماغية بدقة وسرعة، علاوة على التنبؤ المبكر باحتمالية الإصابة ببعض الأمراض في المستقبل.
ويمكّن استخدام الذكاء الاصطناعي "AI" متخصصي الرعاية الصحية من معالجة المشكلات المعقدة، التي تتطلب الكثير من الوقت، واستخراج المعلومات ذات الصلة، وبكميات كبيرة من البيانات، بالإضافة إلى تكوين رؤى قابلة للتنفيذ، الأمر الذي يسهم في دقة وسرعة التشخيص وتقديم العلاج المناسب للمرضى.
كما يسمح للأطباء باستخدام خبراتهم بشكل أفضل، علاوة على مساعدة الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالأوبئة، عبر استخدام خوارزميات تعطي نتائج دقيقة للغاية.
"د. هوا" طبيب المستقبل في السعودية
في مايو 2025، افتتحت شركة "سينيي Synyi AI" المدعومة من شركة Tencent الصينية، أول عيادة طبية تعتمد بالكامل على الذكاء الاصطناعي، وذلك بالشراكة مع مجموعة الموسى الصحية في المملكة العربية السعودية، في خطوة تعد الأولى من نوعها عالميًا.
تقع العيادة في محافظة الأحساء شرق السعودية، وتشهد تطبيق نموذج طبي رائد، يدمج الذكاء الاصطناعي مع الرقابة البشرية، بهدف تقديم رعاية صحية دقيقة وسريعة وأكثر كفاءة.
ويقف في قلب هذه التجربة الفريدة، نظام ذكاء اصطناعي يعرف باسم "د. هوا Dr. Hua"، الذي يتولى مسؤولية تشخيص الحالات ووصف العلاجات بشكل مستقل، بينما يقوم الأطباء البشر بمراجعة الخطة العلاجية، للتحقق من دقتها والتدخل عند الضرورة.
ويبدأ التفاعل بين المريض و"د. هوا" عبر جهاز لوحي يصف فيه المريض أعراضه، ومن ثمّ يطرح النظام أسئلة موجهة، ويحلل البيانات الطبية والصور الإشعاعية التي يجمعها المساعدون الطبيون من البشر، وبناءً على هذه المعطيات، يضع النظام خطة علاجية مفصلة، يراجعها طبيب بشري قبل تنفيذها.
وبحسب تقرير نشرته "بلومبرغ"، سجّل النظام خلال مرحلة الاختبار معدل خطأ أقل من 0.3%، ما يشير إلى مستوى عالٍ من الدقة في التشخيص، ما يعزز ثقة القائمين على المشروع بإمكانيات الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية.
وفي إطار المرحلة التجريبية، استفاد عشرات المرضى من خدمات العيادة مجانًا، حيث يرافق وجود الطبيب البشري النظام لضمان الجاهزية في حالات الطوارئ أو المواقف التي قد تتطلب تدخلاً بشريًا مباشرًا.
وتُعد هذه الخطوة تطورًا مهمًا نحو استخدام الذكاء الاصطناعي كخط دفاع أول في العلاج الطبي في المملكة.
تقتصر خدمات "د. هوا" في الوقت الحالي على الأمراض التنفسية، ويغطي حوالي 30 مرضًا مثل الربو والتهاب الحلق، فيما تخطط الشركة لتوسيع قدرات النظام ليشمل 50 مرضًا خلال العام المقبل، تشمل أمراض الجهاز التنفسي والهضمي والجلدي، كما تعمل "سينيي" مع مستشفيات سعودية أخرى لافتتاح عيادات مشابهة في الأشهر المقبلة.
ويأتي هذا المشروع في إطار توسع لشركات الرعاية الصحية الصينية نحو منطقة الشرق الأوسط، وعلى سبيل المثال وقعت شركة "فوسون فارما Fosun Pharmaceutical Group" من شنغهاي، اتفاقًا مع مجموعة "فقيه كير" السعودية لتطوير علاجات بالخلايا والجينات، وتعزيز التشخيص عن بُعد.
مستقبل الرعاية الصحية الرقمية في المملكة
أكدت أليشا موبن، المديرة العامة والرئيسة التنفيذية لمجموعة "Aster DM Healthcare"، على أن قطاع الرعاية الصحية في المملكة العربية السعودية يشهد تحولاً عميقًا، مدفوعًا برؤية 2030، وتبنٍّ سريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي والحلول الصحية الرقمية.
وأوضحت موبن، في مقابلة مع "الشرق الأوسط"، أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مفهومًا مستقبليًا في قطاع الرعاية الصحية، بل أصبح واقعًا ملموسًا يعيد تشكيل طريقة تقديم الخدمات، كما يلعب دورًا محوريًا في جعل الرعاية الصحية أكثر تخصيصًا وإتاحة وكفاءة في السعودية.
ويُعد ضمان إتاحة الخدمات الصحية للمجتمعات النائية تحديًا كبيرًا، في بلد شاسع، مثل السعودية، فيما يعمل الذكاء الاصطناعي على معالجة هذه القضية، من خلال تمكين الطب عن بُعد والاستشارات الافتراضية، وفقًا لموبن.
وتشرح موبن، التزام شركتها باستخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز الإتاحة، ويتجلى ذلك في تعاونها مع "جوجل كلاود"، لدمج ميزات الاستجابة الصوتية باللغة العربية في منصة "myAster"، مؤكدة أن هذه الميزة تتيح للمستخدمين وصف الأعراض بلهجاتهم المحلية، ما يضمن تفاعلات شخصية وملاءمة ثقافيًا، قائلة: "مثل هذه الابتكارات تُعدّ حاسمة في منطقة تلعب فيها اللغة والخصوصيات الثقافية دورًا كبيرًا في تقديم الرعاية الصحية".
ويستطيع الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية الرقمية أن يدمج الرعاية المادية والافتراضية معًا، كما يلعب دورًا حاسمًا في ضمان استمرارية الرعاية للمرضى، بغض النظر عن موقعهم.
كما أنه يتيح المراقبة عن بُعد، وتتبع الحالات المزمنة من خلال الأجهزة الذكية، وضمان حصول الأطباء على تنبيهات في الوقت المناسب إذا كانت هناك حاجة للتدخل، وفقًا لموبن.
وأكدت المديرة العامة والرئيسة التنفيذية لمجموعة "Aster DM Healthcare"، على أن تاريخ المريض الطبي والوصفات الطبية وخطط العلاج تكون دائمًا متاحة لمقدمي الرعاية الصحية، ما يعزز التشخيص واتخاذ القرارات، في تكامل سلس يقلل من الفجوات في الرعاية، ويضمن أن تكون المتابعات في الوقت المناسب واستباقية.
وبينما تواصل السعودية مسيرتها نحو رؤية 2030، فإن دمج الذكاء الاصطناعي والحلول الصحية الرقمية سيحدث تحولاً جذريًا في نظام الرعاية الصحية بالمملكة، ولا يمكن إنكار إمكانات الذكاء الاصطناعي في إحداث ثورة في الرعاية الصحية، لتصبح السعودية قائدة عالمية بمجال الرعاية الصحية الرقمية.
كما يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي في التخطيط للاحتياجات المستقبلية، وتوجيه السياسات الصحية، والاستجابة للأوبئة والأزمات الصحية، واتخاذ التدابير المناسبة للسيطرة على الجوائح الصحية وتقليل انتشارها، بل وربما إمكانية التنبؤ بها.
