السعودية تعزف سيمفونيتها الثقافية: من الطار إلى طروق.. هوية تُروى بالموسيقى
على أرض تتنفس التاريخ وتنبض بالطموح، حيث تتردد أصداء الماضي في كل زاوية من رمالها الذهبية، تنسج السعودية سيمفونية ثقافية، تروي قصة شعب يعانق تراثه ويرسم ملامح مستقبله، ومن إيقاعات الطار التي تحمل همسات القوافل القديمة إلى منصات رقمية تنقل أنغام المملكة إلى العالم، تخوض السعودية رحلة استثنائية لتعزيز هويتها الثقافية.
تلك المبادرات ليست مجرد مبادرات للحفاظ على الموروث، بل لوحات فنية تتشكل بخيوط الأصالة وألوان الحداثة، تجمع بين ضربات الدفوف التقليدية وإيقاعات العصر الرقمي، إنها قصة شعب يؤمن بأن الموسيقى ليست مجرد نغمات، بل لغة تعبر عن الهوية وتمثل جسرًا بين الأجيال، وتحمل رسالة الثقافة السعودية إلى كل ركن من أركان العالم.
وعبر منصة "الرجل"، نصحبكم في رحلة عبر محطات ثقافية متألقة، من مهرجان الطار إلى مبادرة طروق السعودية، لنستكشف كيف تحولت الأنغام إلى رافعة للهوية الوطنية، مستلهمة من رؤية 2030، التي تجعل من الفن ركيزة لجودة الحياة وجسرًا للتواصل العالمي.
تحولات كبيرة في المشهد الثقافي بالمملكة
أبرز تقرير الحالة الثقافية الخامس لوزارة الثقافة السعودية لعام 2023، التحولات الكبيرة في المشهد الثقافي بالمملكة، مع التركيز على البناء التدريجي وتعزيز ممارسات الصون والتمكين، حيث سجل التقرير زيادة ملحوظة في الإنتاج الثقافي، خاصة في النشر الأدبي، والإنتاج المسرحي والسينمائي، والعروض الأدائية، مما يعكس فاعلية الدعم المقدم للقطاع الثقافي.
كما حققت وزارة الثقافة آنذاك 304 إنجازات محلية، منها 162 في ركيزة "الثقافة كنمط حياة"، و62 في تعزيز المكانة الدولية، و80 في دعم النمو الاقتصادي، بالإضافة إلى إقامة أسبوع الأزياء الأول في الرياض، ودعم إنتاج 70 فيلماً سعودياً.
على المستوى الدولي، ساهمت الوزارة في تعزيز مكانة المملكة من خلال مشاريع مثل "روائع الأوركسترا السعودية" في نيويورك والمكسيك، وفوز عسير بلقب "منطقة فنون الطهي العالمية" كأول منطقة خارج أوروبا، كما تم تسجيل "عروق بني معارض" كأول موقع تراث طبيعي سعودي في قائمة اليونسكو، وإطلاق مبادرة "أطلس مأكولات العالم التقليدية".
واقتصادياً، ساهم القطاع الثقافي بنمو تجاوز 20%، بمساهمة مقدارها 35 مليار ريال في الناتج المحلي غير النفطي.
مهرجان الطار نبض الإيقاعات يجمع العالم
وفي أغسطس 2024، أضاءت العاصمة السعودية الرياض بإيقاعات مهرجان الطار، الذي تزامن مع كأس العالم للرياضات الإلكترونية، ليقدم تجربة ثقافية فريدة، تجمع بين الموسيقى المحلية والعالمية، هذا الحدث السنوي، إذ لم يكن مجرد مهرجان موسيقي، بل منصة عالمية أعادت صياغة مفهوم الفن والثقافة في الشرق الأوسط.
ومن خلال توظيف إيقاعات الطار الشرقية، التي تحمل في طياتها روح التراث الخليجي، قدم المهرجان مزيجًا ساحرًا من العروض الموسيقية التفاعلية، إلى جانب معارض مصاحبة أثرت تجربة الزوار.
وشملت هذه التفعيلات أركان التصوير والبوثات التفاعلية والفنون الاستعراضية، ومعرضًا خاصًا للآلات الموسيقية، مما جعل المهرجان تجربة شاملة تجمع بين المتعة البصرية والسمعية.
فيما استقطب مهرجان الطار أكثر من 400 ألف زائر، من عشاق الموسيقى الإلكترونية والفنون العصرية، الذين قدموا من مختلف مناطق المملكة ودول العالم ليشهدوا هذا العرس الثقافي.
وشارك في المهرجان أكثر من 100 فنان وموسيقي محلي وعربي، قدموا 28 عرضًا دوليًا على خمسة مسارح، في أجواء مفعمة بالأضواء والموسيقى الراقصة، حيث كان الهدف الأسمى هو تمكين المواهب السعودية.
كما أتيحت الفرصة للفنانين المحليين لعرض مهاراتهم أمام جمهور عالمي، مما عزز مكانة المملكة كمركز ثقافي نابض بالحياة، ومن خلال هذا المهرجان، تمكنت المملكة من إبراز تنوعها الموسيقي، وإيصال رسالة ثقافية تجمع بين الأصالة والحداثة، مما جعله منصة فنية عالمية تعيد تشكيل المشهد الثقافي في المنطقة.
منصة موسيقاي ثورة رقمية في تعليم الموسيقى
في نوفمبر 2024، أطلقت هيئة الموسيقى منصة "موسيقاي"، وهي أول منصة رقمية تعليمية مخصصة لتعليم الموسيقى، لتصبح بوابة ثقافية مبتكرة، تهدف إلى تمكين المواهب الموسيقية محليًا وعالميًا.
وهذه المنصة الفريدة التي صممت لتلبي احتياجات الطلاب من مختلف مستويات الخبرة، تقدم دورات تفاعلية تغطي جوانب متعددة من الفن الموسيقي، بما في ذلك العزف على الآلات العربية والغربية، وإنتاج الموسيقى وممارسات صناعة الموسيقى.
ومن خلال دمج التعليم المباشر مع التعلم الذاتي، تتيح "موسيقاي" للطلاب التواصل مع المدربين الخبراء، أو التعلم بمرونة وفق سرعتهم الخاصة، مع توفير شهادات معتمدة وتقنيات بث مرئي، تجعل التعليم متاحًا في أي وقت ومن أي مكان.
وتنقسم المنصة إلى مسارين رئيسين، الأول يستهدف الموسيقيين المبدعين، مع دورات تركز على تعلم العزف على الآلات المتنوعة، والثاني يركز على المهنيين المتخصصين في الإنتاج الموسيقي، مقدمة دورات متقدمة في هذا المجال.
والهدف من منصة "موسيقاي" تثقيف الطلاب حول مختلف أنواع الآلات الموسيقية، وتعزيز أفضل الممارسات في الإنتاج الموسيقي، مما يسهم في تحسين مستوى الموسيقيين في المملكة وفق أعلى المعايير العالمية.
ومن خلال هذه المنصة، تسعى هيئة الموسيقى إلى اكتشاف المواهب ونشر الوعي الثقافي الموسيقي، ودعم رؤية 2030 بجعل الموسيقى جزءًا لا يتجزأ من جودة الحياة، حيث إن "موسيقاي" ليست مجرد أداة تعليمية، بل منصة ثقافية تعزز الهوية الموسيقية السعودية، وتصل بها إلى العالم، مما يجعلها خطوة رائدة في مسيرة إحياء التراث الثقافي.
تُطلق #هيئة_الموسيقى منصة #موسيقاي؛ وهي أول منصة رقمية تُعلّم الموسيقى لجميع المبدعين في أنحاء المملكة والعالم🎼 pic.twitter.com/VeptfULhRd
— هيئة الموسيقى (@MOC_Music) November 13, 2024
ذاكرة الموسيقى السعودية وحفظ الإرث للأجيال
وفي ديسمبر 2024، أطلقت هيئة الموسيقى مبادرة "ذاكرة الموسيقى السعودية"، وهي خطوة طموح تهدف إلى توثيق الأعمال الفنية الغنائية والموسيقية، التي أبدعها فنانون سعوديون محترفون منذ تأسيس المملكة وحتى منتصف الثمانينيات.
والمبادرة التي تنقسم إلى مراحل متعددة، تسعى إلى بناء أرشيف رقمي شامل، يصبح مرجعًا موثوقًا للموسيقى السعودية، يحفظ التراث ويجعله متاحًا للدارسين والمهتمين.
وقد بدأت المبادرة بجمع حقوق استخدام أكثر من 5 آلاف عمل موسيقي وغنائي، تلاها تدوين 305 أعمال موسيقية، وإنتاج كتابين بارزين، الأول بعنوان "من ذاكرة الأغاني الوطنية"، الذي صدر تزامنًا مع يوم التأسيس 2025، والثاني "من ذاكرة الأناشيد الرمضانية".
ولم تكتف المبادرة بالتوثيق التقني، بل امتدت لتشمل لقاءات حوارية مع رواد الفن السعودي مثل: محمد عبده، وعبادي الجوهر، وجميل محمود، وعبده مزيد، الذين استعادوا ذكريات بدايات الأغنية السعودية، وقصص الرواد الذين شكلوا المشهد الموسيقي.
وهذه المقابلات أضافت بعدًا إنسانيًا للأرشيف، جعلته أكثر من مجرد مجموعة أعمال، بل قصة حية تحكي تاريخ أمة.
كما أن المراحل القادمة ستشهد إعادة إنتاج وتوزيع الأعمال المهمة، مع خطط لبناء منصة المكتبة الموسيقية السعودية الشاملة، التي ستصبح منارة ثقافية تتيح للعالم استكشاف الإرث الموسيقي السعودي، ومن خلال هذه المبادرة تضمن المملكة أن أنغام الماضي ستبقى مصدر إلهام للأجيال القادمة.
فنّان العرب؛ مسيرة فنيّة تجاوزت حدود الجمال والعذوبة🎶#ذاكرة_الموسيقى_السعودية#هيئة_الموسيقى pic.twitter.com/tdHTSv6Y7H
— هيئة الموسيقى (@MOC_Music) January 30, 2025
اقرأ أيضًا: موسم الدرعية.. ذاكرة البدايات ونبض الثقافة السعودية
طروق السعودية توثيق علمي لتراث حي
وفي مايو الماضي، توجت هيئة الموسيقى جهودها بإطلاق المرحلة الثالثة من برنامج "طروق السعودية"، بالتعاون مع هيئة المسرح والفنون الأدائية ومركز ذاكرة الثقافة السعودية.
ويهدف هذا البرنامج إلى صون الموروث الموسيقي والأدائي في المملكة، من خلال توثيق علمي متكامل، مع التركيز في هذه المرحلة على خمسة فنون موسيقية في المنطقتين الشرقية والغربية، وهي الصوت - الصهبة - الدانات - الينبعاوي - المجس.
ويعتمد البرنامج منهجية دليل توثيق التراث الثقافي وأرشفته الرقمية، المتوافق مع معايير اليونسكو، لدراسة الخصائص الموسيقية والثقافية والاجتماعية لهذه الفنون، مع إنتاج مواد مرئية وسمعية ومكتوبة تشمل التدوين الموسيقي والحركي وأفلام وثائقية.
وقد حقق البرنامج إنجازات بارزة في مراحله السابقة، بما في ذلك توثيق فن المجارير وفنون مناطق عسير والباحة، مع إنتاج أكثر من 10 آلاف مادة توثيقية، منها 59 فيلمًا وثائقيًا تم نشرها على منصة شاهد.
ومن خلال هذه الجهود تسعى "طروق السعودية" إلى الحفاظ على التنوع الموسيقي، وتعزيز الهوية الثقافية، وإثراء المحتوى البحثي، ما يجعله ركيزة أساسية في مسيرة المملكة نحو إحياء تراثها، حيث تعمل أيضًا على تمكين الشباب من خلال دورات تدريبية في توثيق الفنون، مما يعزز الوعي الثقافي ويفتح آفاقًا اقتصادية جديدة.
#هيئة_الموسيقى تطلق مرحلة جديدة من برنامج #طروق_السعودية لتوثيق خمسة فنون موسيقية في المنطقة الشرقية والغربية. pic.twitter.com/zIaiU3E810
— هيئة الموسيقى (@MOC_Music) May 18, 2025
ومن إيقاعات مهرجان الطار التي جمعت العالم، إلى منصة "موسيقاي" التي فتحت أبواب التعليم الموسيقي، مرورًا بـ"ذاكرة الموسيقى السعودية" التي حفظت أنغام الماضي، وصولاً إلى "طروق السعودية" التي وثقت التراث بعناية علمية، تجسد هذه المبادرات رؤية المملكة 2030 في تعزيز الهوية الثقافية.
وكل هذه المبادرات ليست مجرد مشاريع، بل سيمفونية متكاملة تحكي قصة شعب يحتفي بتراثه، ويبني جسورًا موسيقية تربط بين الماضي والمستقبل، لتظل الأنغام السعودية صدى يتردد في قلوب الأجيال ويصل إلى العالم.
