وارن بافيت يتنحى عن قيادة إمبراطوريته فكيف صاغ أسطورته في عالم الاستثمار؟!

الملياردير الأمريكي وارن بافيت، الذي يحتل المركز الخامس بين أثرياء العالم في قائمة فوربس، بثروة تقدر بنحو 168.2 مليار دولار، قرر مؤخرًا التنحي عن منصبه كرئيسٍ تنفيذيّ لشركة "بيركشاير هاثاواي Berkshire Hathaway"، بعد أن قضى أكثر من 60 عامًا في إدارة هذا الكيان العملاق، وحوله من شركة مترنّحة تعمل في صناعة النسيج، إلى صرح استثماري ضخم يُقدّر بـ1.16 تريليون دولار!
وارن بافيت الذي وُلد في 30 أغسطس 1930، بولاية أوماها لأبٍ وصل إلى الكونجرس الأمريكي، وهو هاورد هومان بافيت، تخرج في جامعة نبراسكا عام 1950، ليُكمِلَ دراسته في كلية كولومبيا لإدارة الاعمال، على يد الأب الروحي لفكرة "الاستثمار القيمي Value Investment"، بنيامين جراهام، الذي يبدو أن "بافيت" قد تأثر بهذه الأفكار إلى أبعد الحدود.
حيث تتلخص فكرة الاستثمار القيمي ببساطة في مراقبة الشركات عن كثب، لشراء أسهمها في الوقت الذي تنخفض فيه، ومن ثم الانتظار حتى يُصحح السوق نفسه لتبيعها وتتربح منها، وهي الفكرة التي ستُشكل ثروة وحياة "بافيت"، لكن هذا لا يعني أنه لم يكن ذا عقلية استثمارية قبل ذلك.
طفولة استثمارية!

منذ أن كان عُمره 6 سنوات فقط، كان "بافيت" يتمتع بعقلية استثمارية من الدرجة الأولى، فلم يكن الطفل ذو السنوات الست يقضي يومه كأقرانه في مثل هذا السن، بين المدرسة واللعب وأفلام الكارتون مثلًا، فقد كان مختلفًا؛ ويُفكر دائمًا في كيفية جني المال!
ولعل واحدة من أشهر القصص المعروفة عن وارن بافيت، أنه عندما كان في سن السادسة من عمره، اشترى 6 زجاجات كوكاكولا بالجُملة من محلِ جده بـ25 سنتًا، وباعها بـ30 سنتًا لأصدقائه ليتربّح من ورائهم!
انتساب "بافيت" لعائلة مرموقة، ولوالدٍ كان في الكونجرس الأمريكي، لم يجعله يفعل الشيء المتوقع من طفلٍ في هذا العمر، وهو الاستمتاع بكل ثانية في حياته قدر المستطاع، إذ كان يمتلك شغفًا عجيبًا بجمع المال، وكان يُحب القراءة لدرجة أنه قال، في عام 2015، عندما كان يبلغ من العمر 85 عامًا آنذاك، إنه يقرأ من 5 لـ 6 ساعات كل يوم!
في سن السابعة، استعار "بافيت" كتابًا من المكتبة بعنوان "One Thousand Ways To Make 1000 Dollars In Your Spare Time"، أو بالعربية "ألفُ طريقة لتكسب 1000دولار في وقت فراغك"، وهو الكتاب الذي أشعل بداخله الحماس لأن يكون رائد أعمال صغيرًا.
كان "بافيت" في ذلك الوقت يتمتع بعقلية استثمارية جديرة بالإعجاب قياسًا على سنه، وكان يجتهد في بيع زجاجات الكوكاكولا إضافةً إلى المجلّات، وكان يحقق منهما مكسبًا وإن كان بسيطًا.
إلا أن شغفه بالاستثمار دفعه في سن العاشرة لأن يسافر إلى مدينة نيويورك، وذلك لاستكشاف البورصة الشهيرة بنفسه هناك، بورصة نيويورك.
وفي سن الحادية عشرة، اشترى أول 3 أسهم في حياته، ثم اشترى مزرعة كاملة عندما دخل في مرحلة الدراسة الثانوية بمساعدةٍ من والده.
وكان أول سهم اشتراه بافيت (وعمره 11 سنة) هو سهمٌ في شركة غاز طبيعي تُسمى Cities Service Preferred؛ اشتراه بـ38 دولارًا فقط، وبحلول سن السادسة عشرة، كان قد حقق ثروة تُعادل أكثر من 50 ألف دولار -بقيمة اليوم- من الأصول في محفظته الاستثمارية، لكن تلك لم تكن سوى البداية.
اقتناص الفرص

بعد الانتهاء من دراسته، قرر وارن بافيت أن يعود لبلدته الأم أوماها، بمدينة نبراسكا، ليبدأ مشروعه الخاص، وهو في السادسة والعشرين.
ولما بلغ من العمر 32 سنة، وأثناء تطبيقه لفكرة الاستثمار القيمي التي تحدثنا عنها في المقدمة، اكتشف شركة نسيج في نيو إنجلاند تُسمى "بيركشاير هاثاوي Berkshire Hathaway".
تأسست هذه الشركة سنة 1839 باسم "Valley Falls Company"، وذلك تيمنًا بالمنطقة التي كانت موجودةً فيها بولاية رود آيلاند، وفي عام 1888، اندمجت الشركة مع شركةٍ أخرى لتصبح "Hathaway Manufacturing Company"، واستطاعت أن تحقق أرباحًا جعلتها واحدة من أنجح شركات النسيج بأمريكا في ذلك الوقت، حيث كانت تحقق أكثر من 120 مليون دولار سنويًا.
لكن، في أواخر الخمسينيات، بدأت صناعة النسيج نفسها تنهار في الولايات المتحدة، ومعها انهارت بيركشاير التي خسرت 7 مصانع من أصل 15 مصنعًا، وبالتالي أصبح مستقبلها مجهولًا.
وبينما كانت بيركشاير تمر بظروف محبطة، كان الاستثماري الصاعد وارن بافت يراقب بتمعن، وعلى الرغم من الخسائر، ظل "بافيت" مؤمنًا بهذه الشركة لسببٍ أو لآخر، وقرر في عام 1962 أن يستثمر في الشركة التي كان يُسعّر سهمها بـ 7.60 دولار فقط.
في غضون 3 سنوات، كان "بافيت" قد اشترى أسهمًا بقيمة 14 مليون دولار، وفي مايو من العام نفسه، أصبح المالك للحصة الأكبر والمُسيطر على الشركة التي لم تكن تُقارن بما كانت عليه، إذ لم تكن تمتلك سوى مصنعين فقط، وعدد عمال هزيل هبط من 12 ألف عامل إلى ألفي عامل!
من النسيج إلى التأمين
لم يكن وارن بافيت مهتمًا بالنسيج، فحوّل بيركشاير هاثاواي عام 1967 إلى شركة في مجال التأمين والاستثمار، وكانت تلك مخاطرة كبيرة بالطبع، لكن لا استثمار بدون مخاطرة كما نعرف.
أول شركة تأمين اشتراها وارن بافيت تحت مظلة بيركشاير كانت National Idemnity Co في عام 1970، وبعد ذلك ببضعة أعوام، اشترت بيركشاير حصة أخرى في واحدة من أشهر شركات تأمين السيارات في أمريكا وهي شركة "جيكو GEICO".
استراتيجية "بافيت" للتوسع في ذلك الوقت كانت تعتمد على "السيولة النقدية Float Money"، وهي تلك الأموال التي تحصل عليها شركات التأمين لتستخدمها في حال حدوث مشكلة تستدعي صرف مبالغ التأمين.
"بافيت" كان يستغل ذكاءه ويستخدم هذه السيولة المالية في استثمارات أخرى تحقق له ربحًا، وكان يحصل على مبتغاه، وهذه مخاطرة، لكن مرةً أخرى، لا استثمار بدون مخاطرة.
اقرأ أيضًا: حكمة وارن بافيت كيف ساعدت ميليندا جيتس على تجاوز لحظات التوتر؟
بيركشاير هاثاواي التي نعرفها

في السبعينيات والثمانينيات، بدأت بيركشاير تتوسع وتشتري حصصًا في شركات أخرى من مجالات متنوعة، مثل الحلويات وشركات الغاز والكهرباء، وبمساعدة تشارلي مانجر (مستثمر انضم إلى بافيت)، ركزت بيركشاير هاثاوي على الشركات التي تحقق نموًا ثابتًا ومتوقعًا على المدى الطويل، مبتعدة عن شركات وول ستريت التي يتهافت عليها المستثمرون التقليديون.
باختصار، كان "بافيت"، بمساعدة شريكه الجديد، يختار الشركات ذات القيمة الحقيقية، وليست تلك التي تحقق أرباحًا مؤقتة.
وبنهاية عام 2007، وصل قيمة السهم، من فئة الـ A، إلى 150 ألف دولار، وبعد ذلك بعشر سنوات، في عام 2017، كانت قيمته 250 ألف دولار، أما اليوم، فقيمة السهم في هذه الفئة تتجاوز الـ800 ألف دولار!
فيما ظل "بافيت" دائم الرفض لفكرة تقسيم الأسهم الكبيرة لأسهمٍ صغيرة، لئلا يُشجّع على المضاربة، ويضمن وفاء المستثمر في هذه الفئة، وبالتأكيد يحافظ على هيبة وقيمة السهم والشركة ككل.
كما اتخذ "بافيت" عدة قرارات جريئة وقت الأزمة المالية العالمية؛ وهي القرارات التي شكك كثيرون فيها، لكنّ الأيام أثبتت صحتها.
ففي سبتمبر 2008 مثلًا، استثمر وارن بافت 5 مليارات دولار في بنك "جولدمان ساكس Goldman Sachs". وفي أكتوبر من العام نفسه، اشترى أسهمًا ممتازة Preferred Stocks بقيمة 3 مليارات دولار في شركة جنرال إلكتريك GE.
أما في نوفمبر من العام 2009، فقد أعلن أن بيركشاير هاثاواي ستشتري Burlington Northern Santa Fe، وهي واحدة من أكبر شركات القطارات في أمريكا، مقابل 26 مليار دولار، وكانت بيركشاير تمتلك 23% من أسهم هذه الشركة أساسًا.
وتُعد شركة Apple أكبر استثمار لبافيت، حيث يستثمر فيها بأكثر من 60 مليار دولار حتى يومنا هذا، وذلك بالرغم من انخفاض قيمة الأسهم نتيجة الرسوم الجمركية وما إلى ذلك.
"بافيت" يستثمر أيضًا في شركة American Express منذ عام 1991، بحوالي 38 مليار دولار، وفي بنك أمريكا Bank of America بحوالي 26 مليار دولار، أي أنه يمتلك قرابة 10% منه.
الجانب الإنساني من وارن بافيت

لا يحب الكثيرون وارن بافيت من فراغ، فقبل أن يكون مستثمرًا ناجحًا، فهو إنسانٌ بما تُجسده الكلمة من معنى.
وفي عام 2006، أفصح وارن بافيت عن نيته بالتبرع بأكثر من 80% من ثروته للمؤسسات الخيرية، وفي عام 2020، قرر رفع هذه النسبة إلى 99%.
المستفيد الأكبر من جُل هذه النسبة هي مؤسسة بيل وميليندا جيتس، التي تركز على قضايا الصحة والتعليم، وأساسًا، يتمتع بيل وبافيت بصداقة قوية منذ أوائل التسعينيات.
كما شملت التبرعات مؤسسات أخرى يديرها أبناء بافيت الثلاثة، بالإضافة إلى مؤسسة سوزان تومسون بافيت، التي سُميت على اسم زوجته الراحلة، والتي تُركز على حقوق المرأة الإنجابية، وتمول برامج المنح الدراسية الجامعية.
واليوم، يؤكد "بافيت" أنه لا ينوي بيع أيٍ من أسهمه في بيركشاير هاثاواي، وأنه سيحرص أن يتم التبرع بها بالكامل -تقريبًا- بعد وفاته.
تسليم الراية
بعد أن حقق عشرات المليارات من الدولارات، وأصبح واحدًا من أثرى أثرياء العالم، قرر وارن بافيت، الذي يبلغ من العمر 94 عامًا، أن يُسلّم راية الإدارة التنفيذية لشركة بيركشاير هاثاواي لنائبه جريج آبيل.
وقد بدأ جريج (62 عامًا) مسيرته المهنية في مجال الطاقة، قبل أن يُصبح ذراع وارن بافيت اليُمنى، وخليفته المُنتظر منذ عام 2021، حين أعلن الراحل تشارلي مانجر عن هذا القرار في اجتماع للمساهمين.
وانضم "آبيل"، المستثمر الكندي الأصل الذي درس في جامعة ألبرتا، إلى بيركشاير في عام 1999، وقد لعب دورًا كبيرًا في توسع الشركة في السوق اليابانية، وعلى الرغم من أن"آبيل" كان يعيش على بُعد بضعة شوارع فقط من وارن بافيت في التسعينيات، فإنهما لم يلتقيا شخصيًا وقتها وفقًا لما ذكره "بافيت" في رسالته السنوية لعام 2023.
وفي قرار تنحيه عن مجلس إدارة الشركة، قال وارن بافيت، إن هذا القرار كان مفاجئًا لمعظم أعضاء مجلس الإدارة، وحتى لجريج الذي لم يكن على علمٍ بالأمر، وأن الوحيدين اللذين أخبرهما تقريبًا كانا ولديه اللذين يشغلان مناصب تنفيذية في الشركة، حيث أطلعهما مسبقًا على هذا القرار المحوري.
والسؤال الآن، هل سيتمكن جريج آبيل من الحفاظ على إرث بافيت؟ أم أن التحديات الحالية والقادمة في عالم الاستثمار قد تؤدي إلى ما لا يُحمَد عُقباه؟
الخبراء يرجحون صحة رؤية "بافيت"؛ الذي قال: "أعتقد أن آفاق بيركشاير ستكون أفضل تحت إدارة جريج من إدارتي".