حين صار الإصرار بطلاً: رحلة جون سينا من الظّل إلى عرش الحلبة
لم يكن عام 2025 عامًا اعتياديًا في تاريخ WWE، فهو العام الذي أسدل فيه الستار على مسيرة واحد من أعظم من اعتلوا حلبات المصارعة على الإطلاق، جون سينا، النجم الذي لم تتردد الشركة في منحه لقب "The Greatest of All Time".
23 عامًا من الحضور المتواصل: 29 لقبًا، وأكثر من 1000 نزال، أرقام تختصر بإيجاز حجم المسيرة، لكنها لا تكفي وحدها لشرح قصة الصعود من مجرّد وجه جديد يبحث عن فرصة، إلى أيقونة صنعت حقبة كاملة في عالم المصارعة الترفيهية.
في السطور الآتية، نعود خطوة إلى الوراء ونتتبع محطات هذه المسيرة الفريدة، من البدايات المتعثرة ومحاولات إثبات الذات، إلى كسر الأرقام القياسية، وصولاً إلى جولة الوداع التي حوّلت كل ظهور لسينا إلى لحظة تاريخية في نظر جماهيره حول العالم.
بداية قصة جون سينا مع عالم المصارعة
لم يبدأ شغف جون سينا بعالم القوة من الحلبة، بل من غرفة التدريب في سن مبكرة للغاية، إذ اتجه إلى رفع الأثقال وهو ما يزال في مرحلة ما قبل المراهقة، واضعًا أول ملامح المسيرة التي ستغيّر حياته لاحقًا.
ومع الوقت، تحوّل هذا الشغف إلى طريق واضح، فاختار احتراف كمال الأجسام، وفي عام 1998 حصل على شهادة في فسيولوجيا التمرين من كلية سبرينغفيلد في ولاية ماساتشوستس، ليجمع بين القوة البدنية والمعرفة العلمية بأساليب التدريب وصناعة البنية العضلية المثالية.
هذا المزيج كان مجرد تمهيد لما هو أكبر. فبعد انتقاله إلى كاليفورنيا، وجد سينا نفسه أقرب من أي وقت مضى إلى عالم ظل يراقبه منذ طفولته: المصارعة الترفيهية.
هناك، شجّعه المحيطون به على خوض دروس احترافية في المصارعة، وهو قرار لم يكن غريبًا على شاب نشأ أمام شاشات التلفاز يتابع نجوم الحلبة، وداخل بيت كان والده يعمل فيه معلّقًا على عروض المصارعة في ماساتشوستس.
عام 2001، اتخذ الخطوة الحاسمة ووقّع أوراق انضمامه إلى منظمة WWE تحت اسم "The Prototype"، في إشارة إلى الصورة النموذجية للمصارع صاحب البنية القوية والحضور اللافت.
كان هذا التوقيع كان بمثابة العبور الرسمي من عالم الهواة إلى منصة الجماهير والأضواء، لكن اللحظة الأهم لم تكن قد حانت بعد.
بعد ذلك بعام واحد فقط وبالتحديد في السابع والعشرين من يونيو عام 2002، ظهر سينا لأول مرة على حلبات WWE، وكما عوّد جمهوره لاحقًا بشخصيته المقاتلة التي لا تخشى التحدي، جاء ظهوره الأول أمام المصارع الكبير كيرت أنجل، أحد أبرز وأقوى نجوم تلك الحقبة.
عندما ظهر جون سينا لأول مرة، بدا مجرد نجم شاب جديد يواجه أحد أقوى المصارعين في ذلك الوقت، لكن ما لم يكن يدركه الجمهور آنذاك أنهم يشاهدون البدايات الأولى لمسيرة أحد أعظم نجوم اللعبة على الإطلاق.
جون سينا من حافة الإبعاد إلى بداية الانطلاق
لكن، وكما هو الحال في كثير من قصص الأبطال الكبار، لم يكن طريق جون سينا مفروشًا بالورود في بداياته داخل WWE، بل كان مهددًا بالانتهاء قبل أن يبدأ فعليًا.
ففي نهاية عام 2002، لم يكن سينا يملك شخصية مميزة أو رابطًا حقيقيًا مع الجمهور، وبدا حضوره في العروض الرئيسة باهتًا إلى درجة جعلته قريبًا من مغادرة الشركة لأن ما يقدّمه لم يترك الأثر الذي كانت الإدارة تبحث عنه.
وخلال جولة أوروبية لـ WWE في أواخر ذلك العام، كان سينا على متن حافلة الفريق مع عدد من مسؤولي الشركة، من بينهم ستيفاني مكمان التي كانت تعمل ضمن فريق الإبداع آنذاك.
وسط الرحلة التي كانت تضم عددًا كبيرًا من المصارعين بدأ بعض النجوم مثل ريكيشي وري ميستريو في إلقاء مقاطع راب مرتجلة، ليباغتهم سينا بانضمامه إليهم ويبهرهم بأدائه القوي الذي لفت انتباه ستيفاني.
هذا الموقف البسيط فتح أمامه بابًا جديدًا، إذ اقترحت ستيفاني أن يقدّم هذا الجانب من شخصيته أمام الكاميرا، وسألته إن كان مستعدًا لتجسيد هذه الشخصية على شاشات WWE، فجاء ردّه السريع: "بالتأكيد".
بعدها نجحت ستيفاني في إقناع الإدارة، بما في ذلك فينس مكمان، بمنحه فرصة جديدة عبر تقديم شخصية Doctor of Thuganomics، وهي شخصية مغني راب يطلق عبارات ساخرة وهجومية بقافية حادة وحضور واثق.
ما كان مجرد اختبار عابر تحوّل إلى نقطة تحوّل في مسيرة سينا، فقد حققت الشخصية نجاحًا لافتًا، ونجح من خلالها في خطف أنظار الجمهور، ليتحوّل من اسم مهدد بالإبعاد إلى واحد من أبرز النجوم الصاعدين، ويمهّد الطريق نحو مكانته كأحد أعمدة WWE في السنوات التالية.
اللقب العالمي الأول لـ جون سينا
لم يمضِ وقت طويل حتى أدركت إدارة WWE أن جون سينا ليس مجرد موهبة واعدة، بل مشروع النجم الأول الذي يمكن أن تبنى عليه هوية الشركة لسنوات مقبلة. وجاءت اللحظة الفاصلة في ريسلمانيا 21 عام 2005، حين وجد سينا نفسه في مواجهة JBL على لقب WWE.
وكما كان يتوقّع كثيرون، نجح سينا في انتزاع الفوز والتتويج بأول ألقابه العالمية في عالم المصارعة الحرة، ليعلن رسميًا انتقاله من خانة النجم الصاعد إلى مصاف أبطال الصف الأول.
هذا التتويج لم يكن اللقب الأول في مسيرة سينا، فقبل عام واحد فقط كان قد تغلّب على بيغ شو في ريسلمانيا 20 ليفوز ببطولة الولايات المتحدة.
لكن لقب WWE حمل مذاقًا مختلفًا تمامًا، فهي البطولة الأهم داخل الاتحاد، والواجهة التي تُعرّف البطل الأول للشركة أمام العالم. لذلك اعتُبرت تلك الليلة بداية فصل جديد في مسيرة سينا، لا مجرد إضافة لقب جديد إلى قائمة إنجازاته.
كما أنها كانت بداية لقصة مختلفة تمامًا، شرارة أولى فتحت الطريق أمام جون سينا نحو رقم قياسي تاريخي سيُصبح لاحقًا واحدًا من أعظم الإنجازات في تاريخ WWE.
اقرأ أيضًا: جون سينا يودع المصارعة بعد 23 عامًا.. اكتشف ثروته وأبرز إنجازاته
جون سينا الأكثر فوزًا بالألقاب في تاريخ WWE
منذ تتويجه بلقبه العالمي الأول، لم يتعامل جون سينا مع البطولة بوصفها ذروة عابرة لمسيرته، بل نقطة انطلاق لسلسلة متواصلة من الإنجازات.
عامًا بعد عام، ظل اسمه حاضرًا في المشهد الرئيس، يتصدّر العروض الكبرى ويدافع عن ألقابه في نزالات حاسمة، حتى بلغ رقمًا استثنائيًا في عالم المصارعة الحرة: 16 بطولة عالمية.
هذا الرقم لم يكن عاديًا بأي حال، لأنه كان يعادل إنجاز أسطورة المصارعة ريك فلير، لتضع الإحصاءات سينا جنبًا إلى جنب مع واحد من أعظم مَن صعدوا إلى الحلبة عبر التاريخ، وتشاركا لسنوات هذا الرقم القياسي بوصفه السقف الأعلى لأبطال WWE.
لكن صفحة جديدة كانت في انتظار سينا هذا العام. ففي 20 أبريل، وخلال نزال نهائي على بطولة WWE في ريسلمانيا 41 أمام كودي رودز، قدّم جون سينا واحدة من تلك المباريات التي تختصر تاريخه بالكامل، من صلابته داخل الحلبة، إلى قدرته على العودة في اللحظات الحاسمة.
وبعد تثبيت رودز وحسم المواجهة، لم يكن الانتصار مجرد فوز جديد في سجل بطولاته، بل كان لحظة كسر لحاجز تاريخي ظل صامدًا لعقود.
بهذا الانتصار، رفع جون سينا رصيده إلى 17 بطولة عالمية، لينفرد بالرقم القياسي كأكثر مصارع تحقيقًا للألقاب العالمية على الإطلاق في تاريخ WWE.
لم يعد اسمه مشاركًا في الصدارة مع أحد، بل أصبح وحده في القمّة، في إنجاز يلخّص مسيرة طويلة من الاستمرارية في القمة، والقدرة على التجدّد، والصمود في وجه تغيّر الأجيال والنجوم والمنافسين.
جون سينا من الحلبة إلى هوليوود
بالتوازي مع صنع مجده فوق حلبات المصارعة، كانت مسيرة جون سينا التمثيلية تسير بخطى متسارعة نحو هوليوود. فقد لفت الأنظار بدور بارز في فيلم الكوميديا Blockers، قبل أن يحصل في العام نفسه على دور رئيس في Bumblebee، أحد الأفلام الفرعية المنبثقة عن سلسلة Transformers، ليُثبت قدرته على الوجود في أعمال جماهيرية كبرى خارج إطار المصارعة.
لكن الانطلاقة الحقيقية جاءت عام 2021، عندما انضم سينا إلى الجزء التاسع من سلسلة The Fast and the Furious، ثم قدّم نقلة نوعية في مسيرته مع شخصية Peacemaker، في فيلم The Suicide Squad.
هذه الشخصية الصدامية والعنيفة، التي تجمع بين الكوميديا السوداء والتناقضات الإنسانية، تحوّلت لاحقًا إلى مسلسل مستقل على منصة HBO، لتُرسّخ وجود سينا كنجم تمثيلي قادر على حمل عمل كامل باسمه.
ومع تراكم هذه الأدوار وتعاظم حضوره في هوليوود، بدأ ميزان الحضور يميل تدريجيًا لصالح عالم التمثيل على حساب تواجده المنتظم في عروض WWE، لتتحوّل عودته إلى الحلبة إلى حدث استثنائي لا روتينًا أسبوعيًا، حتى جاء قرار الاعتزال بوصفه الخطوة الطبيعية التالية لنجم اختار أن يطوي صفحة المصارعة وهو في القمة.
الجولة الوداعية لجون سينا
في 6 يناير من العام الجاري، أعلن جون سينا رسميًا عن جولة وداعه، كاشفًا أن هذا العام سيكون فصل النهاية في مسيرته داخل عالم المصارعة الاحترافية.
ومنذ تلك اللحظة، تحوّل كل ظهور وكل نزال إلى محطة خاصة تترقّبها جماهيره حول العالم، إدراكًا منهم أنهم يشاهدون الأسطر الأخيرة في قصة امتدت لعقود.
شارك سينا خلال جولة الوداع في عدد من أبرز العروض الشهرية الكبرى، بداية من رويال رامبل في فبراير، حيث قدّم أداءً قويًا لكنه خسر في النهاية أمام جاي أوسو، ليضيع منه في تلك اللحظة حلم التأهل إلى ريسلمانيا 41.
غير أن الفرصة لم تُغلق تمامًا، فخلال عرض إليمنيشن تشامبر، تمكّن سينا من الفوز بالنزال الحاسم الذي منح الفائز بطاقة الذهاب إلى ريسلمانيا للمنافسة على أحد الألقاب العالمية، ليحجز اسمه من جديد في أكبر عروض العام.
وفي ريسلمانيا 41، كتب جون سينا واحدة من أهم صفحات مسيرته حين نجح في التتويج ببطولة WWE للمرة السابعة عشرة، لينفرّد بلقب الأكثر فوزًا بالألقاب العالمية في تاريخ الاتحاد.
مع ذلك، لم يكن الجانب الفني وحده ما أثار الجدل في جولة سينا الأخيرة، بل أيضًا تحوّله المفاجئ إلى Heel (الشخصية الشريرة).
فالرجل الذي مثّل لأكثر من 20 عامًا الوجه المحبوب والقدوة الإيجابية لجماهير WWE، ظهر فجأة في هيئة مختلفة تمامًا، يستخدم الخداع والالتفاف على القوانين داخل الحلبة.
هذا الانقلاب الدرامي في شخصية جون سينا شكّل صدمة حقيقية لعشاقه حول العالم، وظل لأيام محور النقاش على منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الرياضية.
ومع أن هذه المرحلة الشريرة أضافت بُعدًا جديدًا ومختلفًا لصورة سينا على الشاشة، فإنها لم تدم طويلا، إذ سرعان ما عاد إلى ملامحه المعتادة كشخصية محبوبة قريبة من الجمهور، وكأن التجربة لم تكن سوى فصل قصير لاختبار ردود الفعل قبل العودة إلى الجوهر الحقيقي لما مثّله طوال مسيرته.
هذا الرجوع إلى شخصية جون سينا التي يعرفها الجميع بدا وكأنها تمهيد واعٍ للطريقة التي أراد بها أن يودّع الحلبة: بالشخصية التي أحبّته الجماهير من خلالها، لا بالنسخة المثيرة للجدل.
ومن هنا جاء أحد أهم المشاهد في جولة اعتزاله، ففي نوفمبر 2025، تمكّن سينا من تحقيق إنجاز جديد بإضافة بطولة الإنتركونتيننتال إلى سجله للمرة الأولى في مسيرته، ليضع بذلك آخر قطعة في لوحة ألقابه الكبرى داخل WWE.
بهذا التتويج، لم يقتصر وداعه على مباريات رمزية أو لحظات عاطفية فحسب، بل حمل أيضًا بعدًا تنافسيًا واضحًا، أكد من خلاله أنه ظل حتى أيامه الأخيرة على الحلبة قادرًا على صناعة التاريخ وإكمال دائرة المجد التي بدأها قبل سنوات طويلة.
أما المشهد الختامي الرسمي لمسيرة جون سينا في عالم المصارعة فجاء في 13 ديسمبر 2025، خلال عرض Saturday Night’s Main Event، في ليلة حملت منذ الإعلان عنها إحساسًا مختلفًا لدى جماهير المصارعة حول العالم.
على الحلبة التي شهدت صعوده وتألقه لأكثر من عقدين، دخل سينا لخوض آخر نزال له أمام النجم غونثر، ليس كمجرّد خصم جديد، بل وجه أخير يقف في مواجهة تاريخ كامل يوشك أن يُطوى.
على مستوى الأداء، لم يتعامل جون سينا مع النزال بوصفه مباراة وداعية شكلية، بل قدّم ما يشبه ملخصًا مكثفًا لمسيرته: روح قتالية لا تهدأ، محاولات عودة متكررة، وإصرار على تقديم مباراة تليق بما يحمل اسمه من ثقل.
في المقابل، مثل وجود غونثر أمامه تجسيدًا لانتقال الشعلة إلى جيل جديد من النجوم، ليصبح النزال مواجهة رمزية بين ماضٍ صنع تاريخ الاتحاد وحاضر يستعد لصياغة فصوله المقبلة.
في تلك الليلة، لم تودّع الجماهير مجرد بطل جمع الألقاب والأرقام القياسية، بل ودّعت رمزًا شكّل جزءًا من ذاكرة طفولة وشباب ملايين حول العالم، نجمًا حمل على كتفيه مسؤولية أن يكون وجه الشركة في أصعب فتراتها، ويظل حاضرًا في الصف الأول داخل الحلبة وخارجها.
من المفارقات اللافتة في تلك الليلة أيضًا أن سينا خسر المباراة عن طريق الاستسلام، في سابقة هي الأولى له خلال مسيرة ممتدة على مدار عقود لم يعرف فيها هذا النوع من الهزيمة.
وكأن النهاية حملت رسالة رمزية واضحة؛ لم يستسلم سينا لخصم داخل الحلبة بقدر ما أعلن استسلامه الطوعي لفكرة الاستمرار في المصارعة، واختار بنفسه لحظة وضع النقطة الأخيرة في سطر من أهم أسطر تاريخ WWE.
هكذا، أُسدِل الستار على مسيرة جون سينا، لا بوصفه خروجًا عاديًا لأحد النجوم، وإنما خاتمة لفصل كامل في تاريخ المصارعة الترفيهية، سيظل اسمه مرادفًا لروح القتال، والالتزام، والقدرة على البقاء في قمة الضوء لأطول فترة ممكنة.
