هل ننسى لننجو أم أنّ الزمن ينسينا رأفةً بنا؟
لو قرأت هذه الكلمات الآن، ثُمّ سُئِلت في الغد عن موضوعٍ قرأته عن النسيان، بالتأكيد ستتذكّر سريعًا، لكن ماذا لو سُئلت نفس السؤال بعد أسبوعٍ من الآن، هل ستظلّ متذكرًا للموضوع كما هو؟
النسيان لغزٌ حيّر علماء النفْس، بين نظريات محتملة تفسّر سبب النسيان، مثل تداخل الذكريات، بأن تحلّ ذكريات جديدة محل القديمة، خاصةً إذا تشابهت معها، أو التخلص من الذكريات القديمة التي لا تستخدمها.
ولكن ثمّة نوعٌ آخر من النسيان، حين تختار أن تكبت ذكريات مُعيّنة، لأنّها تذكّرك بأحداثٍ مؤلمة أو صادمة، فهل يزداد النسيان بمرور الوقت أم أنّنا نختار النسيان أحيانًا لتجاوز الآلام والصدمات؟
هل يزداد النسيان مع تقادُم الزمان؟
كان عالِم النفْس "هيرمان إبنجهاوس" من أوائل الذين درسوا النسيان علميًا، مُجرِيًا التجارب على نفسه، باختبار ذاكرته بمقاطع لا معنى لها مُكوّنة من ثلاثة أحرف، وقد اعتمد على تلك الطريقة، لأنّ استخدام كلمات معروفة مسبقًا كان يتطلب الاستعانة بمعرفته الموجودة في ذاكرته بالفعل.
ولاختبار المعلومات الجديدة، اختبر "إبنجهاوس" ذاكرته لفترات زمنية تتراوح بين 20 دقيقة إلى 31 يومًا، ثُمّ نشر النتائج التي توصّل إليها في عام 1885 في "Memory: A Contribution to Experimental Psychology".
وكشفت نتائجه عمّا يُعرف بـ"منحنى النسيان لإبينجهاوس"، الذي يربط العلاقة بين النسيان والوقت. ففي البداية، غالبًا ما تُفقَد المعلومات بسُرعة كيبرة بعد تعلّمها، وتتأثّر مدى سُرعة الفقدان بعدّة عوامل، مثل كيفية التتعلّم ومدى تكرار التدرب عليها.
بينما تكون المعلومات المخزنة في الذاكرة طويلة المدى أكثر استقرارًا بصورة مُدهشة.
ولكن ما أظهره منحنى النسيان ليس ذلك فقط، بل أظهر أيضًا أنّ النسيان لا يستمر حتى تُفقَد جميع المعلومات، بل عند نقطة معينة، يستقر مقدار النسيان ولا يستمر إلى ما لا نهاية.
النظريات المُفسِّرة للنسيان عند الإنسان
بالطبع ليس الوقت هو العامل الوحيد المباشِر في مسألة النسيان، بل ثمّة عوامل أخرى كثيرة تُؤثِّر في قدرتك على الاحتفاظ بالمعلومات، توضّحها النظريات الآتية:
1. تداخل الذكريات والنسيان
تتنافس ذكرياتك مع بعضها داخل عقلك، مُزيحة لغيرها من الذكريات، خاصةً عندما تكون المعلومات متشابهة جدًا لمعلومات أخرى مُخزّنة مسبقًا في الذاكرة.
مثال على ذلك إذا سألك أحدهم ماذا تناولت على العشاء ليلة الثلاثاء من الأسبوع الماضي؟ لو سُئلت هذا السؤال في صباح الأربعاء، ربما لن تواجه مشكلة في تذكّر ما تناولته، ولكن مع مرور الأيام، تبدأ ذكريات الوجبات الأخرى التي تناولتها منذ ذلك الحين في التدخّل في ذاكرتك لتلك الوجبة المُعيّنة، وهذا مثال على ما يسميه علماء النفس "نظرية التداخل في النسيان".
2. نظرية اضمحلال الذاكرة
وفقًا لهذه النظرية، يتم إنشاء "أثر" للذاكرة في كل مرة تتكوّن فيها فكرة أو معلومة جديدة، لكن تضعف الذاكرة تلقائيًا إذا لم تُستخدَم هذه المعلومات، وإذا لم تُستعاد تلك المعلومات وتُراجَع، فإنّها تُنسَى في النهاية.
ومع ذلك، فإنّ إحدى مشكلات هذه النظرية هي أنّ الأبحاث أثبتت أنّه حتى الذكريات التي لم تُستخدم أو تُراجَع، فإنّها تكون مستقرة بشكل ملحوظ في الذاكرة طويلة الأمد.
بل اقترح بحث عام 2017 في دورية "Neuron" أنّ الدماغ يقوم بتقليم الذكريات التي تصبِح غير مستخدَمة بشكل نشط، ومع تراكُم الذكريات، فإنّ الذكريات التي لا تُسترجَع تُفقَد في النهاية.
اقرأ أيضًا:من فقدان الكلمات إلى النسيان الدائم.. إشارات خفية تكشف الخرف المبكر
النسيان وسيلة لتجاوز الآلام والصدمات
بعيدًا من تلك النظريات، ففي بعض الأحيان نختار نسيان ذكريات مُعيّنة، خاصةً المتعلقة بأحداث أو تجارب مؤلمة، والذي قد يكون أقرب إلى نسيانٍ مُتعمّد، تتعرّض فيه بعض الذكريات إلى القمع.
فإنّ نسيان أو كبْت الذكريات المؤلمة والصدمات، قد يساعد على التكيّف بشكلٍ أفضل مع تلك الصدمات، ورغم أنّ هذه الأحداث قد لا تُنسى بالكامل، فإنّ نسيان بعض التفاصيل يمكن أن يقلّل المشاعر الصعبة المرتبطة بتلك الذكريات.
ومع ذلك، فإنّ مفهوم كبْت الذكريات ليس يعتبر مقبول عالميًا من قِبل جميع علماء النفْس، فإحدى المشكلات المتعلقة به هي أنّه من الصعب إن لم يكُن من المستحيل، دراسة ما إذا كانت الذاكرة قد تعرّضت لقمعٍ متعمّد لنسيانها أم لا من الناحية العلمية.
كيف يختار عقلك النسيان أحيانًا؟
رغم عدم اتفاق علماء النفْس، فإنّ هناك بعض التفسيرات المحتملة لهذا النسيان الانتقائي. ووفقًا لموقع "Psychology times" فإنّ أدمغتنا قد تختار نسيان أمورٍ بعينها، فالقشرة الجبهية -مركز التحكم في الدماغ- قادرة على قمع الحُصين (منطقة في الدماغ مسؤولة عن تخزين الذكريات)، إذ يرسِل الدماغ رسالة مفادها "لا أتذكر هذا!"، مما يساعد على منع التذكّر على المدى القصير، ويجعل استرجاع الذكريات لاحقًا أكثر صعوبة.
كذلك تصبح اللوزة الدماغية، التي تتعامل مع مشاعر الخوف والقلق، أقل نشاطًا في أثناء هذا القمع، ومِنْ ثمّ تضعف الذاكرة والمشاعر المرتبطة بها.
بل في بعض الأحيان، بدلا من حجب ذكرى سيئة بشكلٍ مباشر، فإنّنا نستحضر ذكرى أخرى إلى أذهاننا، فمثلا عندما تظهر صورة مؤلمة، قد نفكّر في مكان أو حدث أو شخصٍ سعيد بدلا من ذلك.
الثمار العاطفية للنسيان
ليس بالضرورة أن يكون النسيان شيئًا سلبيًا، فهو يساعد بالأساس على تنظيم العواطف، ومن خلال قمع الذكريات غير المرغوب فيها، فإنّنا نقلّل من مشاعر القلق أو الخوف أو الحزن المرتبطة بها، فهو وسيلة لحماية العقل.
وكلّ إنسانٍ يختار أمورًا بعينها لا يرغب في تذكرها، كاختيار عدم التركيز على الفشل أو خلافات العلاقات، بما يساعد على حماية الصحة النفسية والعلاقات مع الآخرين.
أيضًا النسيان ليس مجرد فقدان للذكريات بمرور الوقت، بل إنّ الدماغ يمكن أن يعالِج الذكريات غير السارّة أو يقمعها أو يعِيد تشكيلها بطريقة أخرى، وهذا إن دلّ فإنّما يدلّ على أنّ الذاكرة مرنة وأنّ النسيان قد يصبّ في النهاية في صالح نفْسك ومشاعرك.
