حين لامس الفن الفضاء… قصة التمثال الذي بقي نصف قرن فوق سطح القمر
نشرت موسوعة غينيس للأرقام القياسية تقريرًا موسعًا حول القصة الإنسانية وراء أول عمل فني يُترك على سطح القمر، وهو تمثال صغير مصنوع من الألومنيوم يمثل هيئة إنسان في وضع ساكن، يرقد حتى اليوم على تراب القمر منذ أكثر من نصف قرن.
القصة تعود إلى الثاني من أغسطس عام 1971، عندما كان طاقم مهمة Apollo 15، المكوّن من رواد الفضاء ديفيد سكوت، جيمس إيروين، وآل ووردن في مراحلهم الأخيرة من النشاط القمري الثالث لتلك الرحلة التي أطلقتها وكالة ناسا.
وخلال تنفيذ الإجراءات الروتينية بالقرب من مركبة الاستكشاف القمرية Lunar Roving Vehicle، وعلى بعد نحو 100 متر من مركبة الهبوط Falcon، قام ديفيد سكوت بخطوة غير رسمية خارج قيود المهمة، حيث وضع تمثالًا صغيرًا من الألومنيوم بجانبه لوحة معدنية، حملت أسماء 14 رائد فضاء أمريكي وسوفيتي فقدوا حياتهم في أثناء أداء مهامهم الفضائية.
ومن بين الأسماء التي وثقتها اللوحة: يوري غاغارين، فلاديمير كوماروف، غويس غريسوم، روجر شافي، وتشارلز باسيت وغيرهم.
التمثال، الذي أطلق عليه الفنان البلجيكي بول فان هويدونك اسم Fallen Astronaut، جاء بتصميم تجريدي بسيط على طراز "عصر الفضاء"، يعكس ملامح الإنسان رمزًا للتضحية والعزيمة، وكان الهدف منه تخليد ذكرى أولئك الذين دفعوا حياتهم ثمنًا لتوسيع حدود المعرفة البشرية.
أول معرض فني في الفضاء
بحسب ما أوردته موسوعة غينيس، فإن سكوت قرر تنفيذ هذه المبادرة بالتنسيق مع الفنان البلجيكي، لكنه لم يعلن عنها رسميًا قبل الرحلة لتجنب أي اعتراض من مسؤولي وكالة ناسا حول ترك أجسام غير علمية على سطح القمر.
ومع ذلك، كان بعض كبار المسؤولين في الوكالة على علم مسبق بالخطة ووافقوا على تنفيذها بشرط عدم الإعلان عنها قبل انتهاء المهمة.
وخلال التنفيذ، كان زميله جيمس إيروين على علم بما يجري وساعده في إلهاء مركز التحكم (CAPCOM) في قاعدة هيوستن، بينما قام سكوت بوضع القطعة التذكارية في مكانها.
وعندما سأله المراقب في مركز الاتصال، جوزيف بي. ألين، عما يفعل، أجاب سكوت ضاحكًا: "نقوم فقط بتنظيف الجزء الخلفي من العربة، قليلًا، يا جو"، في حين أنه كان يخلّد ذكرى زملائه الذين سقطوا في سبيل استكشاف الفضاء.
وبعد انتهاء الرحلة بأيام، كشف سكوت رسميًا خلال المؤتمر الصحفي في 12 أغسطس 1971 عن وجود التمثال واللوحة التذكارية، موضحًا الهدف منها بأنه "تقدير شخصي وهدية رمزية لكل من ضحى بحياته من أجل التقدم العلمي للبشرية"، وأكد أنه نفذ المبادرة "بأسلوب لائق ودون دعاية"، احترامًا لأسر الضحايا وزملائهم.
التمثال بقي منذ ذلك الحين في المكان نفسه على سطح القمر، في موقع أصبح يوصف اليوم بـ"أول معرض فني خارج الأرض"، واعتبرته موسوعة غينيس دليلًا على امتزاج الفن بالعلم والوفاء الإنساني في أوج سباق الفضاء، الذي طالما جسد التنافس بين القوى العظمى لكنه في هذه المبادرة جسّد روحًا موحدة للإنسانية.
اليوم، وبعد مرور أكثر من 50 عامًا، لا يزال تمثال Fallen Astronaut يرقد في صمت، شاهدًا على لحظة خالدة جمعت بين الإبداع والشجاعة الإنسانية، فبينما طوى الزمن الكثير من أحداث سباق الفضاء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، بقي هذا التمثال رمزًا خالدًا لتضحيات الرواد الأوائل الذين دفعوا الثمن كي يحلم الإنسان بأن يعيش بين النجوم.
ويظل العمل الفني الصغير، بطول 8.5 سم فقط، رسالة فنية وإنسانية تذكر العالم بأن الفن لا يعرف حدود الأرض، وأن الإنسان بطبيعته يسعى لأن يترك بصمته حتى في أقاصي الكون.
