كيف صنعت الأساطير والسياسة صورة الفايكنغ عبر القرون؟
يرى باحثون أن معظم الأفكار الرائجة عن الفايكنغ، وأسطورة الشمال القديم لا تعكس حقيقة التاريخ، بل جاءت من مصادر كُتبت بعد قرون من انتهاء عصر الفايكنغ؛ إذ يعتمد ما نعرفه اليوم عن الفايكنغ على نصوص العصور الوسطى التي تركت مساحة واسعة لإعادة التفسير، ما جعل هذه الصورة عرضة لتبدلات فكرية وثقافية متراكمة عبر الزمن.
ويشير الباحثان رولاند شيل وسيمون هاوكه من جامعة كيل إلى أن تصوراتنا الحديثة عن الفايكنغ جاءت نتيجة تداخل بين الأدب والسياسة والفن والدين، إذ أعاد الكتّاب والفنانون والسياسيون على مدى قرون صياغة هذه الأسطورة بما يخدم مصالحهم ورؤاهم؛ فقد تحولت من قصص بطولية رومانسية إلى رموز قومية وأدوات لتشكيل الهوية الفكرية والسياسية في أوروبا.
ويؤكد شيل أن الصورة التقليدية للفايكنغ، كمحاربين شجعان وبحّارة مهرة ومغامرين بلا خوف، جاءت نتيجة تأثير السينما والمسلسلات التلفزيونية والألعاب الإلكترونية والعروض المتحفية، لكنها لا تمثل بالضرورة الواقع التاريخي للعصور التي عاشها هؤلاء، والتي تمتد من القرن الثامن حتى الحادي عشر الميلادي.
وأضاف أن النصوص التاريخية الباقية لا تتجاوز كونها "تاريخًا للذاكرة" أكثر من كونها تدوينًا دقيقًا للحدث.
الأساطير الإسكندنافية والفايكنغ
يشرح الباحث رولاند شيل أن الأساطير والمعتقدات القديمة في دول الشمال الأوروبي، مثل السويد والنرويج والدنمارك وآيسلندا، لم تكن مجرد قصص دينية، بل تحولت على مرّ الزمن إلى أدوات تُستخدم لأهداف سياسية وثقافية.
ففي القرن التاسع عشر، استند المستشار الألماني أوتو فون بسمارك إلى الملاحم الإسكندنافية القديمة لتعزيز الشعور القومي لدى الألمان، بينما لجأ الأخوان غريم إلى القصص النوردية للمساهمة في إحياء الهوية الثقافية الألمانية.
وفي القرن العشرين، أعادت الحركة النازية توظيف هذه الأساطير لخدمة أفكارها العنصرية، فاعتبرت الفايكنغ رمزًا للقوة والنقاء العرقي، ما أدى إلى تشويه صورتهم التاريخية وتحويلهم إلى أداة سياسية.
أما اليوم، فقد تبنت حركات فكرية وثقافية معاصرة، تُعرف بـ"النيو-وثنية"، تلك الموروثات الإسكندنافية كمصدر إلهام لإحياء قيم الحرية والشجاعة والمساواة بين الجنسين، لكنها غالبًا ما تتجاهل الجانب العنيف في تاريخ الفايكنغ.
وتبقى هذه الصورة المثالية حاضرة في الثقافة الحديثة، من الأفلام وألعاب الفيديو إلى مبادرات مجلس أوروبا، الذي أطلق “الطريق الثقافي للفايكنغ” بوصفه مشروعًا يبرز التراث الإسكندنافي كجزء من الهوية الأوروبية المشتركة.
وكانت الأساطير الإسكندنافية مصدر إلهام كبير للفنون الأوروبية، خصوصًا في الموسيقى والأوبرا. من أبرز الأمثلة أعمال الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر، الذي قدم في القرن التاسع عشر أوبراه الشهيرة "خاتم النيبلونغ".
وقدم المؤلف الألماني ريتشارد فاغنر شخصية "الفالكيري" كامرأة قوية وشجاعة لا تخشى القتال، لتصبح رمزًا للبطولة الأنثوية. ومع مرور الوقت، انتشرت هذه الصورة في الثقافة الحديثة، وظهرت في ألوان مختلفة من الفنون، من موسيقى الميتال التي تستلهم القوة والأسطورة، إلى ألعاب الفيديو الشهيرة مثل "يوغي يو".
يؤكد الباحث سيمون هاوكه أن الصورة الشائعة اليوم عن شخصية "الفالكيري" لا تعكس حقيقتها في الأساطير الإسكندنافية القديمة.
ويشير هاوكه إلى أن هذه الشخصيات كانت أكثر تنوعًا وعمقًا مما تصوره الأعمال الفنية الحديثة التي ركزت فقط على جانب القوة.
ويسعى المشروع إلى تقديم رؤية جديدة للماضي الإسكندنافي، تُظهر التنوع في تاريخه وأساطيره، وتعيد التوازن بين الحقيقة والخيال بعد قرون من المبالغة الفنية والسياسية التي شكّلت صورة الفايكنغ في الوعي العام.
