الاختيار الذكي: متى تبتكر ومتى تقلد؟ خارطة طريق لاستراتيجية رابحة
لطالما كان الابتكار نبض الحياة في عالم الأعمال، والمحرك وراء المنتجات الثورية والخدمات المبتكرة والتحولات الصناعية الكبرى، ولكن في سباق النجاح، لا يكون شق الطريق من الصفر دائماً هو الخيار الأمثل لكل شركة، فأحياناً، تكون الخطوة الأذكى هي عدم ابتكار ما هو جديد، بل تقليد مدروس لخيار ناجح موجود بالفعل.
وفي ظل ارتفاع تكلفة الفشل، يصبح الاختيار بين هاتين الاستراتيجيتين، الابتكار أو التقليد، أمراً بالغ الأهمية، وقد يكون الفارق بين الريادة في السوق وارتكاب أخطاء مكلفة للغاية.
لذلك قبل أن تسأل الشركات نفسها: "كيف نبتكر؟"، عليها أن تسأل: "متى نبتكر؟ وهل من الأفضل أن نقلد بدلاً من ذلك؟".
إعادة تعريف الابتكار والتقليد
في جوهرهما يمثل الابتكار والتقليد نهجين مختلفين جذرياً للمنافسة والنمو، فالابتكار يشمل خلق شيء جديد أو إجراء تحسينات كبيرة على المنتجات أو الخدمات أو العمليات القائمة.
وهذا المسار يتطلب الرؤية والصبر وتحمل المخاطر، وغالباً ما يحتاج إلى استثمارات كبيرة، وأطر زمنية طويلة قبل تحقيق الأرباح.
أما التقليد، فهو ليس مجرد بديل أو علامة ضعف، بل استراتيجية مدروسة لتبني أو تكييف أفكار أو تقنيات أو نماذج أعمال مجربة.
وهذا المسار قد يكون أسرع وأقل تكلفة، وبمخاطرة أقل بكثير من الابتكار، مما يسمح للشركات الاستفادة من إنجازات قائمة، دون الحاجة لتحمل تكلفة الريادة والبدء من الصفر، حسب ما جاء في مقال "التقليد: المفتاح الجديد لنجاح الأعمال Imitation: the new key to business success"، المنشور في موقع "Imperial Business School".
متى نبتكر ومتى نقلد؟
في مقال نشرته مجلة "هارفرد بيزنس ريفير HBR"، للباحث البروفسور "فيليبي أ. ساسزار"، رئيس قسم الاستراتيجية في كلية روس للأعمال بجامعة ميشيغان، بالتعاون مع الباحثة والرائدة في مجال إدارة الأعمال "ريبيكا كارب"، والباحثة في استراتيجيات الأعمال والتنظيم "ماريا روش"، قدم المؤلفون إطار عمل مبنيًا على عقود من الأبحاث، لمساعدة الشركات على تحديد ما إذا كان الأفضل لها اتباع استراتيجية الابتكار أو التقليد.
يقوم هذا الإطار على بعدين أساسيين:
- الأول هو نضج القطاع أو الصناعة
- الثاني هو موقع الشركة داخل القطاع
ويقع بموضع الشركة داخل القطاع أداؤها، وفق معايير محددة، مقارنة بالمنافسين الآخرين. وتختلف هذه المعايير من صناعة إلى أخرى، فعلى سبيل المثال، تتنافس شركات الطيران عادة على الجودة والتكلفة، بينما يركز مصنعو الهواتف الذكية على قوة المعالجة والتصميم.
ولتحديد متى تبتكر أو تقلد، يجب أن تحدد شركتك أولاً المعايير الأكثر أهمية في سوقها، باستخدام البيانات من أبحاث السوق ودراسات العملاء، وبعد ذلك يمكن قياس أداء الشركة وفق هذه المعايير ومعرفة موقعها مقارنة بالمنافسين.
- الخطوة الأولى: فهم نضج القطاع الذي تعمل فيه
أول ما يجب وضعه بالحسبان هو ما إن كان قطاعك حديثًا (ناشئًا) أو ناضجًا، ففي القطاع الناشئ عدد المنافسين سيكون قليلًا، وهناك الكثير من الفرص التي لم تكتشف بعد، وهنا الابتكار غالباً هو الفائز.
فعلى سبيل المثال، في عشرينيات القرن الماضي، كانت صناعة السيارات لا تزال ناشئة، فسيطرت "فورد Ford" على السوق بموديل تي، لكن شركة "جنرال موترز GM" حققت نجاحاً كبيراً من خلال الابتكار، حيث قدمت سيارات ملونة بتصاميم أنيقة وهياكل مغلقة.
وفي سوق السيارات الكهربائية، قامت "تسلا Tesla" بشيء مماثل، إذ أطلقت سيارة كهربائية فاخرة عالية الأداء عندما كان معظم المصنعين يقدمون سيارات صغيرة وعملية.
أما في قطاع ناضج، فإن معظم الشركات ستكون قد استكشفت السوق بالفعل وتم الابتكار، ما يعني أن الفرص محدودة، وفي هذه الحالة تحقق الشركات نتائج أفضل إذا قامت بالتقليد، أو نسخت أفضل الأفكار من المنافسين، الذين هم في موقع أفضل بشكل طفيف.
- الخطوة الثانية: تحديد النطاق.. من يجب أن تقلد؟
في القطاعات الناضجة، من الأفضل أن تقوم بتقليد الشركات التي تشبهك لناحية الحجم والموارد والموقع السوقي، وهذا يسمى "نطاق التقليد".
فتقليد الشركات المتقدمة عنك بكل شيء قد لا ينجح، بسبب الفجوة الكبيرة في الموارد وحجم السوق ورأس المال.
وإليك مثال يوضح الفكرة، في الثمانينات قلدت شركة السيارات الكورية مثل "هيونداي Hyundai" و"كيا Kia" المصنعين اليابانيين بكل شيء، مما ساعدها على التحسن تدريجياً، حتى أصبحت قادرة على المنافسة عالمياً.
في المقابل شركة "لادا Lada" الروسية، حاولت القفز مباشرة لتقليد السيارات الأمريكية والألمانية، لكنها فشلت لأن الفارق بينها وبين الشركتين كان كبيراً جداً.
شركة "تنسنت Tencent" نجحت في تقليد منافسين ضمن نطاقها، إذ طورت لعبة "Arena of Valor"، إستناداً إلى "League of Legends" مما ساعدها على اكتساب الخبرة سريعاً وزيادة حصتها السوقية.
اقرأ أيضًا: أنواع الشخصيات المالية وتأثيرها على أساليب الإدارة ونجاح الأعمال
- الخطوة الثالثة: اختر بناءً على موقعك
إليك طريقة بسيطة جداً لتحديد ما يجب على شركتك فعله، وذلك وفق مقال "هارفرد بيزنس ريفيو":
- إذا كنت في قطاع ناشئ، ابتكر، فما زال هناك مساحة لاكتشاف أفكار جديدة.
- إذا كنت في قطاع ناضج: قلد الأقرب لك.
- إذا كنت قريباً من القمة، استمر في الابتكار للبقاء في الصدارة.
- إذا كنت ما تزال بعيداً عن القمة أو في البداية، قلد المنافسين ضمن نطاق التقليد الخاص بك، كي تتمكن من اللحاق بهم بسرعة.
ومثال على ذلك شركة "زيرس اس ام تي Zeiss SMT" المتخصصة في معدات أشباه الموصلات، والتي تعمل في سوق ناضج، لكنها رائدة في بعض التقنيات، وبالتالي لا يمكنها التقليد لأنه لا يوجد من هو متقدم عليها، لذلك عليها مواصلة الابتكار.
- الخطوة الرابعة: تنظيم شركتك لتتناسب مع الابتكار أو التقليد
بعد تحديد ما إن كنت ستبتكر أو تقلد، هناك ضرورة ملحة لتنظيم شركتك كي تتناسب مع الاستراتيجية المحددة.
- إذا كنت تسعى للابتكار:
- اجعل هيكل الشركة مرناً وأقل هرمية، والهرم الإداري المسطح أفضل لتسريع العمل وتمكين الفرق.
- وظف أشخاصاً مبدعين يوفرون الأفكار الجديدة.
- اعتمد روتيناً يسمح بالتجربة.
- كن صبوراً وركز على المدى الطويل، لأن الابتكار يحتاج إلى وقت.
- إذا قررت التقليد:
- حدد الأدوار بشكل واضح، مع إجراءات قياسية لتسريع النسخ والتكييف.
- استقطب موظفين لديهم خبرة في الشركات المنافسة للحصول على المعرفة من الداخل.
- ركز على البحث في السوق وتتبع الأفكار المجربة.
- تحرك بسرعة، اللحاق بالمنافسين سباق قصير الأمد.
والأهم من ذلك كله هو فهم التقليد، وهو فن واستراتيجية تجارية متطورة وليس نسخًا أعمى للآخرين، وعندما ينفذ بشكل صحيح يمكن أن يكون وسيلة للنمو والمنافسة بنجاح، دون تحمل المخاطر والتكاليف العالية للابتكار.
تقوم الشركات الناجحة بتقليد الابتكارات التي أثبتت نجاحها بسرعة، لاقتناص فرص السوق، فالعامل الزمني هام جداً، كما تختار المنافسين الذين تقلدهم بعناية لتجنب هدر الموارد والخروج بخسائر كبيرة، كما تحدد توقيت تحركاتها بشكل استراتيجي لبقاء التنافسية في الصناعات التي تتغير بسرعة.
ومن خلال إتقان فن التقليد الاستراتيجي، والتعلم من المنافسين، والتكيف الفعال، والتنفيذ السريع، يمكن للشركات تقليل المخاطر، وتعزيز قدراتها الابتكارية، ودفع نمو مستدام، حسبما جاء في مقال "لماذا يمكن أن يكون تقليد الابتكار استراتيجية ناجحة Why imitating innovation can be a successful strategy"، المنشور في موقع "ورويك بيزنس سكول WBS”.
فن التقليد كخطوة استراتيجية
قال مؤسس شركة "آبل Apple" في إحدى المقابلات في التسعينيات: "الفنانون الجيدون يقلدون، والفنانون العظماء يسرقون، ونحن كنا دائماً نسرق بلا خجل الأفكار العظيمة"، جملة تختزل جوهر عالم الأعمال، حيث يقود التقليد أحياناً إلى الابتكار.
ففي المشهد التنافسي للأعمال حتى أكبر الشركات وأكثرها ابتكارًا، كثيراً ما تحقق النجاح من خلال تقليد الأفكار المجربة.
تطبيق "Threads" من "ميتا Meta" على سبيل المثال، والذي هو تقليد معدل لمبدأ "منصة X" ومميزاتها الأساسية، حقق نجاحاً كبيراً، ووفق TechCrunch، فإن عدد المستخدمين بلغ 350 مليونًا في عام 2025، في زيادة خرافية عن الـ30 مليونًا في عام 2024، وهذه الأرقام تثبت كيف يمكن للتقليد الاستراتيجي أن يجذب ملايين المستخدمين بسرعة.
مثال آخر على نجاح مبدأ التقليد، يتجسد في "Alando" و"Ebay"، حيث قام الأول بتقليد الموقع الشهير وتخصيصه للمزادات العلنية للسوق الألمانية، وخلال 3 أشهر من الانطلاق قامت شركة "إيباي" بالاستحواذ عليه بـ43 مليون دولار، وهذا العائد الضخم والسهل على الاستثمار يظهر أن "فن التقليد" لا يعني مجرد النسخ، بل التكيف الذكي واختيار النماذج المناسبة، وتحسينها وتنفيذها بسرعة.
الشركات العملاقة مثل "وول مارت"، "آي بي أم"، "زيروكس"، وغيرها الكثير تستخدم "التقليد الإبداعي" بنجاح، حيث تراقب باستمرار المنافسين، و"تستعير" الابتكارات منهم، وتحسن المنتجات والخدمات.
في قطاع السيارات تبرز تجربة السيارات الكورية الجنوبية في الثمانينيات، والتي تظهر كيف يمكن للتقليد أن يكون استراتيجية نمو ناجحة، فمن خلال تقليد شركات السيارات اليابانية بشكل كبير جداً، تمكنوا من تطوير قدرات مكنتهم من المنافسة عالمياً، وبالتالي الابتكار لاحقاً.
التقليد لا يتمحور فقط حول المنتجات الفعلية، بل قد يطال استراتيجيات العمل أيضاً، فشركات التكنولوجيا الكبرى مشهورة بالتقليد والنسخ، وفي الطليعة تأتي شركة "آبل Apple"، ففي أواخر التسعينات وظف "ستيف جوبز"، خليفته اللاحق "تيم كوك"، لإعادة تنظيم سلسلة التوريد باعتماد ممارسات مثل شركة "ديل Dell" مما قلل التكاليف وزاد الأرباح.
وبالمثل هيمنت "شاومي Xiaomi" على السوق الصينية للهواتف، من خلال تقليد نموذج أعمال "غوغل Google"، المتمثل بتقديم أجهزة مميزة بأسعار أقل.
تظهر هذه الأمثلة أن التقليد ليس خياراً ثانوياً أو أقل قيمة، بل نهج استراتيجي معتمد، يتبناه قادة الصناعة لتقليل مخاطر الابتكار، وتسريع دخول السوق، والحفاظ على الميزة التنافسية، من خلال التعلم الذكي والتكيف السريع.
