أيهما أكثر أمانًا في الأزمات: الذهب أم البيتكوين؟

لم يكن مفهوم تخزين القيمة محصورًا يومًا في البنوك، فلطالما ارتبط بفطرة الإنسان، التي تدفعه دائمًا لحماية ثرواته من تقلبات الأيام.
وعادةً ما يميل المستثمرون إلى الاعتماد على المعادن النفسية، وعلى رأسها الذهب، باعتبارها ملاذًا استثماريًا آمنًا، وقد يبدو هذا صحيحًا إلى درجة كبيرة، غير أنه يختلف تمامًا عن الاعتماد على عملة البيتكوين الافتراضية مثلًا، والتي بدأت منذ سنوات قليلة تفرض نفسها كخيارٍ لا يُستهان به، فكيف يختلف الذهب والفضة عن البيتكوين في مفهوم تخزين القيمة؟
عملة البيتكوين

انطلقت البيتكوين في عام 2009 كفكرةٍ جريئة ومختلفة، تنادي بمالٍ بلا وسطاء، ولا بنوك مركزية، ولا حدود!
في البداية، وكأي شيء جديد، لم يقتنع أحد بهذه الفكرة، حتى أن هناك قصة مشهورة لمبرمج يُدعى "لازلو هانيتش" اشترى بيتزا باستخدام 10 آلاف بيتكوين، أو ما يعادل اليوم أكثر من مليار دولار أمريكي!
وقد عُرِفَ هذا الحدث لاحقًا باسم "Bitcoin Pizza Day"، كأول معاملة حقيقية استُخدمت فيها البيتكوين كوسيلة للدفع في العالم الحقيقي.
وقت هذا الحادث، في عام 2010، فوجئ بعض المغامرين الأوائل بأن عملاتهم الرقمية، التي اقتنوها وقتها مقابل أجزاء من السنت، قفزت لتُباع بسعر 9 سنتات للبيتكوين الواحد.
ولم يكن هذا بالتأكيد رقمًا ضخمًا، لكنه كان كافيًا لجذب الانتباه، ونتيجة لذلك، ظهرت مزارع التعدين العملاقة، وتكوّنت تجمّعات تنقيب عن البيتكوين، وكأنها تبحث عن الآثار أو الذهب، وبدأت منصات التداول في الظهور تباعًا، لتصل البيتكوين إلى ما وصلت إليه اليوم.
ولماذا يفضل البعض الذهب؟

الذهب كالوتد؛ لا يتأثر سلبًا بتقلبات الأسواق والأسهم، بل يلوَّح للمستثمرين ويغريهم للاستثمار فيه، ولهذا لا عجب أنه ظل خيارًا آمنًا عبر العقود المختلفة، ومنذ أن بدأ الإنسان يُنقّب عن الذهب منذ أكثر من 2500 سنة، وهو يشغل مكانة خاصة، إذ لم يُنظَر إليه كمجرد معدنٍ لامع قط، وإذا تحدثنا عن مدى أهميته الاستثمارية، وحتى الروحية، فلن ننتهي، لكن لماذا يحتفظ بقيمته إلى اليوم؟
قد يُصاب البعض بالدهشة عند معرفة أن الذهب لا يتكون على كوكب الأرض!
نعم، فحكاية هذا المعدن الثمين معقدة للغاية، ويمكن القول إنها تبدأ من انفجارات النجوم، وتنتهي في خزائن البنوك المركزية، ويُعتقَد أن الذهب نتج عن كوارث كونية مثل تصادم النجوم النيوترونية أو انفجارات السوبرنوفا، أي أنه أتى من خارج كوكبنا حرفيًا.
وعلى مر العصور، أصبح الذهب أكثر من مجرد معدن، بل أشبه بعُرفٍ بشري يتكرر في كل حضارة، من المايا إلى الفراعنة إلى بورصة نيويورك، وحين احتاجت البشرية إلى وسيلة تبادل تُوازي في قيمتها الجهد المبذول للحصول عليها، كان الذهب جاهزًا لتلك المهمة.
ومع أن العالم تخلّى رسميًا عن ربط عملاته بمخزونات الذهب منذ عقود، فإن هذا المعدن لم يتزحزح عن مكانته كملاذ آمن، خصوصًا عندما تبدأ الأسواق المالية في الترنح، ولا يحتاج الذهب إلى توقيع من بنك مركزي ولا إلى ضمان من حكومة، بل تكفيه سمعته القديمة وخصائصه الكيميائية التي جعلته يدوم بلا أي تغيّر.
أما من ناحية الكمية، فستُفاجأ بمدى محدودية ما استخرجناه من باطن الأرض، وإليك هذه المعلومة: كل الذهب الذي استُخرج في التاريخ (أكثر من 190 ألف طن بقليل)، يمكن صهره داخل مكعب لا يتعدى طوله 21 مترًا فقط، أي أقل من أونصة واحدة لكل إنسان على وجه الأرض، ونعتقد أن هذا أكثر من كافٍ للجواب على سؤال "لماذا يحتفظ الذهب بقيمته اليوم".
وعلى الرغم من شهرة البيتكوين ومميزاتها المختلفة مقارنةً بالذهب، فإن الأخير لا زال يحظى بغالبية الثقة، وعلى سبيل المثال خلال جائحة كورونا فضل كثيرون الذهب على البيتكوين، ليصعد سعر الأونصة في المعدن اللامع من أقل من 1300 دولار في بداية 2019 إلى حوالي 2100 دولار في منتصف 2020، والآن أكثر من 3200 دولار في 2025.
ما الذي يُميز الذهب عن البيتكوين؟

على مستوى التشريعات مثلًا، يخضع الذهب إلى ما يمكن أن نصفه "بالتهذيب الاستثماري"، وذلك منذ آلاف السنين، فكل شيء حيال هذا المعدن واضحة؛ مصدره، ووزنه، وشرعيته، وحتى القوانين التي تضبط حركته بين الدول، فلا يُمكنك ببساطة حمل سبائك ذهب والمرور بها عبر المطارات قبل أن تُبرر ذلك.
وتعمل أسواق الذهب بصراحة وحرفية شديدة، وأي عملية بيع أو شراء تمر عبر وسطاء معتمدين، إلا إذا كنت تفضل تخزينه تحت وسادتك، وهذه مخاطرة من نوع آخر، والذهب ليس من السهل تزويره أو التلاعب به أو تهريبه، وهذه ميّزات لا يدركها من يُفتنون بالعملات الرقمية.
على الجانب الآخر، لا يزال البيتكوين يتحسس طريقه في سوق التنظيمات المالية، إذ بالرغم من صعوبة سرقته أو تزويره بفضل تقنية البلوكتشين، إلا أن تتبع مالكه أمر في غاية الصعوبة، وإلا كانوا اكتشفوا هوية ساتوشي ناكاموتو.
ويُعرَف عن البيتكوين -وغيره من العملات المشفرة- لامركزيته التي تكرهها الجهات التنظيمية، فمعظم الدول لم تضع بعد أطرًا ناضجة لحمايته أو تنظيمه، وبعضها بالكاد يعترف به، أضف إلى ذلك محدودية استخداماته بعكس الذهب، الذي يدخل في كل شيء تقريبًا بداية من الحُليّ والزينة وحتى أطقم الأسنان والدوائر الكهربائية.
شيء آخر يُميز الذهب عن البيتكوين هو سيولته وسهولة تصريفه، حيث إنه قديم للغاية مقارنةً بالبيتكوين نعم، إلّا أنك تستطيع استبداله بسرعة وبدون مفاجآت غير سارة، وفي المقابل، إذا أردت أن تصرف البيتكوين فسيتعمد الأمر على حجم محفظتك الاستثمارية؛ إذا كنت تملك بعض عملات، فستتمكن من بيعها -ربما في ثوانٍ، أما إذا كانت محفظتك الرقمية بها المئات، فهنا ستشقى على الأغلب لبيعها، وغالبًا لن تبيعها في نفس اليوم أو حتى في أيام.
أخيرًا وليس آخرًا، إذا كنت متابعًا لسوق البيتكوين والعملات الرقمية، فلا بد وأنك لاحظت أنها هشة جدًا أمام تقلبات المزاج الجمعي، فتغريدة أو منشور واحد من شخصية مؤثرة كإيلون ماسك مثلًا، أو خبر عن حظر تنظيمي، حتى لو كان في بلدٍ بعيد... إلخ، كفيلة بأن تقلب سعر البيتكوين رأسًا على عقب، وصحيح أن البعض يستغل هذه الفرص للاستثمار في البيتكوين ويكسب الكثير لاحقًا، لكن العكس بالعكس.
في المقابل، يظل الذهب بعيدًا عن هذه الدوامة؛ لا تُغريه "التريندات"، ولا يهتزّ مع ضجيج العناوين، فقيمته تنبع من تاريخه الذي أعطيناكم لمحة عنه، ومن الثقة الراسخة فيه، ولذلك، كثيرون ما زالوا يعتبرونه الملاذ الأكثر أمانًا، خصوصًا عندما تتعالى ضوضاء العملات الرقمية.
اقرأ أيضًا: ملياردير يوضح أسباب تفضيله للبيتكوين عن الذهب والفضة.. تعرف عليها
ما الذي يُميز البيتكوين عن الذهب؟

لكن مميزات الذهب التي ذكرناها توًا لا تعني أنه بالضرورة أفضل من البيتكوين، فالبيتكوين لا يُمكن أن يُسرَق أو يتلف كما يتلف المعدن النفيس، فهو ليس شيئًا ماديًا من الأساس، وما دامت هناك شبكة إنترنت نشطة ومجتمع موزّع من الحواسيب يدير البلوكتشين، فإن البيتكوين باقٍ ويتمدد.
كذلك يتفوق البيتكوين على الذهب في إمكانية تخزينه المرنة، إذ لا يحتاج إلى بنوك أو خزانات؛ كل ما يحتاج إليه هو محفظة رقمية افتراضية وفقط، وخلال حديثنا عن المرونة، لا يجب أن ننسى أيضًا أن البيتكوين يُمكن أن يقسَّم أو يُجزأ بشكل مرن إلى 100 مليون "ساتوشي"، وهذه ميزة رائعة في التعاملات الدقيقة، بعكس الذهب الذي يصعب تجزئته، إلا إذا اعتبرنا وحدة الجرامات من الكيلوجرام تجزئة، وهو أمر غير شائع بالنسبة للسبائك مثلا، بينما قد يكون ممكناً في المشغولات الذهبية.
النقطة الثالثة التي تُعطي البيتكوين أفضلية عن الذهب هي نُدرته، فعلى الرغم من نسبة الذهب الضئيلة التي استخرجناها، فإن كميته بالأرض يُعتَقد أنها أكبر من 200 ألف طن بكثير، أما البيتكوين، فلن يُنتَج منه أكثر من 21 مليون عملة، كما أنه مُشفّر على البلوكتشين ولا يخضع للرقابة.
والخلاصة، أن المقارنة بين الذهب والبيتكوين من حيث تخزين القيمة ليست مقارنةً بين شيء جيد وآخر سيئ، فالأمر عبارة عن مدرستين مختلفتين تمامًا، فبينما يُعتبر الذهب بمثابة الأب الروحي للأمان المالي، يواصل البيتكوين نموه السريع وتخفّيه من رادارات الحكومات ورقابتها الصارمة، ويمكننا أن نُلخص الفرق في أن الذهب يُخاطب غريزة البقاء بداخلنا، أما البيتكوين فيراهن على المستقبل.