بعد قرون من النهج الخطي.. هل ينقذ "الاقتصاد الدائري" كوكبنا؟

جميعنا مدينون للبيئة؛ وكوكب الأرض لم يعد قادرًا على تلبية استهلاكنا؛ تخيّل أن كل هاتفٍ تشتريه أو طعام تَرميه يسهم في زيادة هذا الدَيْن البيئي، الذي لن يسقط ما دمنا نتعامل مع الموارد بالطريقة نفسها، ويبدو أن الأجيال القادمة سيقع عليها عبء لا يوصف إذا لم نتخذ خطوات سريعة ومحسوبة.
ولحسن الحظ فإن هناك بديلاً للنظام الاقتصادي الاستهلاكي العالمي، الذي يُسيّرنا اليوم؛ يُسمى هذا البديل بالاقتصاد الدائري، الذي يمثل حقًّا ضرورة قصوى، لنا ولمن تبعنا من أجيال.
ماهية الاقتصاد الدائري

يقوم العالم حاليًّا على نظامٍ اقتصاديّ خطي، بمعنى أننا نستخرج الموارد الطبيعية من الأرض، نحولها إلى منتجات نستفيد بها، ثم نتخلص منها كفضلات، ومن إجمالي المواد المُستخدمة، يُعاد تدوير نسبة لا تتجاوز 7.2%، وهذه نسبة ضئيلة للغاية، تُلقي بثقلها على البيئة، ومن ثَم فإن علينا كمستهلكين، نظرًا لتغير المناخ والتلوث وغيرهما من المشكلات الأخرى، أن نسعى لوضع حلول عاجلة وآجلة.
على النقيض، يسعى "الاقتصاد الدائري Circular Economy" إلى تقليل النفايات، واستغلال الموارد بطريقة أفضل، وذلك عن طريق تصميمها بشكلٍ مستدام، بحيث يصبح عمرها الافتراضي أطول، وقابليتها للتدوير أعلى، ومن ثم تقليل العبء على البيئة.
وقد ظهر مصطلح الاقتصاد الدائري في عام 2008، حيث نشرت عشرات المقالات التي تتحدث عن هذا المفهوم على قاعدة بيانات دورية Scopus. ومع الوقت، شهدنا طفرةً ملحوظة في عدد الأبحاث والمقالات حول الاقتصاد الدائري، نظرًا للجهود الضخمة المُنصبة على البيئة، والعيون الباحثة عن أي حلٍ يمكن استغلاله لرفع العبء عن كاهل كوكبنا.
لماذا نحتاج إلى الاقتصاد الدائري؟

لقد تجاوزنا بالفعل حدود الموارد الطبيعية التي توفرها الأرض لنا، وكوكبنا أصبح على صفيح ساخن، وها هو الآن يدخل في نفقٍ مظلم، ولك أن تتخيل ما سيحمله المستقبل إذا ما استمر نهجنا الاستهلاكي، إذ سنحتاج بحلول عام 2050 إلى 3 كواكب مثل أرضنا الجميلة لتلبية احتياجاتنا، وهذه الحقيقة التي قررها الخبراء، تدعونا إلى الوقوف مع أنفسنا والتفكير بجدية في هذا المأزق.
فعلى مدى العقدين الماضيين، ارتفع استهلاك الموارد على مستوى العالم بأكثر من 65%، ما أدى إلى استهلاك نحو 95.1 مليار طن في عام 2019 وحده، وفي العام نفسه، فقدنا نحو 13% من الطعام الصالح للأكل -بعد الحصاد- بسبب مشكلات النقل وسوء التخزين، علاوة على ذلك، أُلقي بـ17% من الطعام في مكبات نفايات البيوت، والمطاعم، والمحلات؛ ما يعني أن الكثير من المستهلكين اشتروا طعامًا يفوق احتياجهم في ظل وجود مجاعات في بقع مختلفة من العالم!
وإذا ابتعدنا عن الطعام واتجهنا للمخلفات الإلكترونية مثلًا، كلُّ شخصٍ في العالم تقريبًا أنتج حوالي 7.3 كيلوجرام من النفايات الإلكترونية في 2019؛ سواء هواتف قديمة، أو أجهزة لابتوب، أو أجهزة كهربائية متنوعة، إلخ، والمشكلة أن معظم هذه المخلفات لم يتم تدويرها أو التخلص منها بشكل آمن، مما تسبب، ويتسبب، بضررٍ كبير للبيئة ولنا.
اقرأ أيضًا: البيئة السعودية موطن الحيوانات الفريدة والنادرة (إنفوجراف)
تدق هذه الإحصائيات جرس إنذارٍ يدعو للنظر في الطريقة التي نتعامل بها مع الموارد المحدودة، وذلك لحماية مستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة، وهنا تَبرُز أهمية الاقتصاد الدائري.
هل سيحل الاقتصاد الدائري أزمة المناخ؟

في الوقت الحالي، تَنتُج حوالي 70% من غازات الدفيئة عالميًا بسبب اعتمادنا على الاقتصاد التقليدي، الذي يقوم على مجرد استخراج الموارد واستخدامها، وإذا أردنا خفض الانبعاثات بشكل ملحوظ، يجب أن ننتبه لمناطق الاستهلاك والإنتاج غير المستدام، خاصة في قطاعات مثل الصناعة والبناء والزراعة.
وتشير الدراسات إلى أن الاستخدام الدائري والفعّال لأربعة مواد صناعية رئيسة: (الأسمنت، الصلب، البلاستيك، والألومنيوم)، يمكن أن يخفض الانبعاثات بنسبة 40% بحلول عام 2050، وإذا ضممنا الأساليب الدائرية في نظام الغذاء، فقد نحقق انخفاضًا في الانبعاثات يصل إلى 49%.
ضمن إطار "اتفاقية باريس"، تتعهد الدول بخفض نسب الانبعاثات وزيادة الصمود أمام الطقس القاسي والكوارث الطبيعية، وبدمج مبادئ الاقتصاد الدائري في هذه التعهدات، يمكن تسريع التحول إلى اقتصاد منخفض الكربون، وحماية البيئة، وتوفير وظائف خضراء.
وتشير منظمة العمل الدولية إلى أن تطبيق أنشطة الاقتصاد الدائري، وعلى رأسها إعادة التدوير يمكن أن يخلق 6 ملايين وظيفة حول العالم بحلول عام 2030.
كيف يمكن للتكنولوجيا أن تساعد الاقتصاد الدائري؟

هناك علاقة بين التكنولوجيا والاقتصاد الدائري منذ سبعينيات القرن الماضي، ففي ذلك الوقت، بدأنا نلاحظ المشكلة الحقيقية لإهدار المواد وعدم استغلالها عن طريق إعادة التدوير، ومن هنا كانت البذرة الأولى لتكنولوجيا الفرز، والآلات التي تساعد في تحويل المخلفات لمواد أخرى يمكن الاستفادة منها.
في التسعينيات، ظهر مفهوم "توسيع نطاق مسؤولية المنتج EPR"، ويعني أن المُنتجين والمُصنّعين أصبحوا مسؤولين ليس فقط عن إخراج المُنتج في صورته النهائية، بل عن قابليته لإعادة التدوير بعد الانتهاء من استخدامه، وكانت هذه دعوة للمصنعين بأن يُصمموا منتجات صديقة للبيئة، مما شجعهم على الابتكار وإدارة منتجاتهم بطريقة مسؤولة وذكية.
في العقد الماضي، دخلت تقنية البلوكتشين أو سلسلة الكتل في الاقتصاد الدائري، والبلوكتشين هي التقنية التي تقوم عليها العملات الرقمية، وهي عبارة عن سجلٍ رقميّ غير قابل للتغير ويعمل بنظام اللامركزية، حيث يتم تسجيل المعاملات والتحقق منها عن طريق شبكة من الحواسيب المتفرقة، دون الحاجة إلى وسيطٍ مركزي، وبفضل هذه التقنية أصبح بالإمكان تتبع المنتجات بدايةً من موادها الخام وحتى عملية إعادة التدوير.
اقرأ أيضًا: «القاتل المعلوم».. أضرار لا تعرفها للديزل على الإنسان والبيئ
ومن الشركات التي تستخدم تقنية البلوكشتين في تتبع المنتجات شركة Everledger؛ وتعتمد هذه الشركة على التقنية المذكورة في تتبع الألماس تحديدًا، بدايةً من استخراجه من المناجم، وتقطيعه، وتصنيعه، وحتى عملية التوزيع، والفكرة كما قلنا تكمن في أن كل قطعة من الألماس تمتلك ما يمكن أن نُسميه بـ"بطاقة الهوية الرقمية"؛ من خلال هذه "البطاقة" يستطيع التاجر أن يعرف كل شيء عن الألماس بالتفصيل، ويتأكد من أنها مُستخرجة بطريقة قانونية وأخلاقية لا تؤثر على البيئة، قِس ذلك على كل المنتجات الأخرى.
ماذا عن الذكاء الاصطناعي؟

تقنية البلوكتشين ليست الوحيدة التي تدخل في الاقتصاد الدائري وتساعد على تحسينه، فتقنيات أخرى مثل "إنترنت الأشياء IoT"، التي تُساعد أيضًا على تتبع المنتج، والطباعة ثلاثية الأبعاد، التي تُحسن من سلسلة التوريد بطرق يطول شرحها، وغيرهما، تُعزز من الاقتصاد الدائري.
وبما أننا في عصر الذكاء الاصطناعي، فدعونا نرَ كيف يمكن للآلة أن تُسهم في هذا النوع من الاقتصاد:
- يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُساعد المهندسين في تصميم منتجات تستهلك موارد أقل، ويمكن إعادة تدويرها بسهولة، فبفضل النماذج التي توصلنا إليها، يمكن تحليل كميات ضخمة من البيانات، لنخرج بأفضل تصميم للموبايل أو اللابتوب أو غيرهما من الأجهزة.
- يمكن للذكاء الاصطناعي أيضًا أن يدخل في حاويات القمامة، ويتجسد على شكل مستشعرات تُميز الهدر أو النفايات إلى: زجاجٍ، بلاستيك، وورق، إلخ، وسيوفر هذا الأمر الوقت الذي يستهلكه الفرز اليدوي، وسيحسن من فرص إعادة التدوير وتقليل التلوث البيئي.
- يمكن أن يدخل الذكاء الاصطناعي، الذي من تطبيقاته الواقع المعزز AR، في العملية الشرائية، عن طريق جعلك تُجرّب الأشياء قبل شرائها ومعرفة المعلومات الضرورية عنها، والأهم من ذلك تمييز الصديقة للبيئة -ودعمها- من المنتجات الضارة.
الاقتصاد الدائري ليس كل شيء!
من المهم أن نعرف أن الاقتصاد الدائري مجرد وسيلة أو فكرة وليس غاية، وهذه الفكرة موجودة منذ عشرات السنين، وهناك الكثير من الدول والمنظمات التي بدأت في انتهاجها بالفعل، لكن هناك مشكلة، حيث يقول بعض الخبراء إنه على الرغم من أهمية وضرورة فكرة الاقتصاد الدائري، فإنها أيضًا تُشجع على الثقافة الاستهلاكية، التي نحاول أن نُحاربها أساسًا، كيف؟
تقوم فكرة الاقتصاد الدائري على الحلول الهندسية، مثل إعادة التدوير، وتعتمد على تحقيق نمو اقتصادي مستمر، وهذا الأمر، بالرغم من فائدته، فإنه قد يشجع على الاستهلاك، مثلما قد تحث حلول توفير الطاقة الأشخاص على استخدامها أكثر.
بمعنى أبسط: عندما يعلم المستهلك أن هذا المنتج أو ذاك يمكن تدويره بسهولة، فإنه سيتساءل في قرارة نفسه: لماذا لا أبالغ في الاستهلاك إذًا؟ وسيفعل ذلك دون أن يؤنبه ضميره.
وختامًا، لكي تنجح فكرة الاقتصاد الدائري، فلا بد أن تكون جزءًا من تغيير شامل، ولا بد أن يكون هناك وعي بما نستهلكه وبمصير ما نستهلكه، فيما يجب أن نواجه سلطة الشركات العملاقة، التي لا يهمها سوى الربحية، ونُشجع المنتجات الصديقة للبيئة إذا كنا نريد إحداث فارقٍ حقيقي.