في يومه الثالث.. مهرجان البحر الأحمر يسطع بين الشاشات وتنوّع الرؤى
في أمسية اختلط فيها وهج الشاشة بسحر البحر، تهادى اليوم الثالث من مهرجان البحر الأحمر السينمائي كلوحة متكاملة التفاصيل، جمعت بين عمق الحكاية وجمال الصورة وروح الاكتشاف.
يوم حافل بالحوارات والعروض والأسماء اللامعة، تجلّت خلاله رؤى مبدعين من الشرق والغرب في احتفاء فني يُعيد تعريف معنى اللقاء بين الثقافة العالمية والهوية العربية.
حوارات مع نجوم مهرجان البحر الأحمر
أضاء مهرجان البحر الأحمر السينمائي في يومه الثالث أفق الثقافة العالمية بسلسلة من الحوارات التي جمعت رموز الفن من الشرق والغرب، بحيث امتزج البريق الهوليودي بالأصالة السعودية في مشهد احتفالي يليق بمكانة الحدث.
افتُتحت الجلسات الحوارية بجلسة خاصة جمعت بين الممثل الأمريكي أدريان برودي، الحاصل على جائزتي أوسكار لأفضل ممثل، والمخرج السعودي حكيم جمعة الذي يمثل أحد أبرز الأصوات السينمائية في المملكة.
ومع استمرار الجلسات الحوارية التي تحتفي بالنخبة، استضاف المهرجان المخرج ستانلي تونغ، القادم من قلب هونغ كونغ بسيرة إبداعية امتدت على مدى عقود.
عُرف تونغ بخبرته الإخراجية وبالتعاون الطويل الذي جمعه مع الممثل جاكي شان في سلسلة من الأفلام التي شكّلت جزءًا من الذاكرة السينمائية.
وقد وُجد اسمه على قوائم المكرّمين في العديد من الجوائز العالمية، من بينها جائزة هونغ كونغ السينمائية، وجائزة الحصان الذهبي، وجائزة الملاك الذهبي من مهرجان السينما الصينية الأمريكية.
يأتي حضور هؤلاء النجوم ضمن برنامج حافل يجسّد رؤية مهرجان البحر الأحمر السينمائي في بناء جسر حقيقي بين الإبداعين العربي والعالمي، بحيث تتحول المنصّات الحوارية إلى مساحة تلتقي فيها الثقافات، وتتقاطع التجارب، لتكتب فصولاً جديدة في سردية السينما الحديثة التي تجمع بين الحرفية العالمية والهوية المحلية.
عرض فيلم محاربة الصحراء
لم يكن اليوم الثالث من مهرجان البحر الأحمر السينمائي مجرد محطة حوارية مع رموز الفن، بل كان احتفاءً بصناعة الصورة ذاتها، إذ أضيئت الشاشات بعرض أعمال استثنائية يُنتظر أن تترك أثرًا طويل المدى في المشهدين العربي والعالمي.
تصدر العروض الفيلم السعودي محاربة الصحراء الذي حمل توقيع المخرج روبرت ويات، وجمع بين أجواء الملحمة التاريخية والإثارة الحركية، بمشاركة نخبة من الأسماء البارزة مثل أنتوني ماكي، عايشة هارت، سير بن كينغسلي وغسان مسعود.
يأخذ الفيلم جمهوره إلى قلب الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، زمن التنافس بين القبائل والصراع على النفوذ، حيث تنسج الحكاية حول الأميرة هند، التي تجسدها عايشة هارت، الرافضة للخضوع لسطوة الإمبراطور الساساني كسرى الذي يلعب دوره سير بن كينغسلي.
تجد الأميرة نفسها في رحلة هروب محفوفة بالمخاطر إلى عمق الصحراء مع والدها الملك النعمان، بينما يلاحقهم المرتزق جلابزين، وجنود كسرى المتعطشون للدماء.
في خضم هذه المعركة، يبرز لص غامض، يصبح مفتاحًا لتحالف غير متوقع يوحّد صفوف القبائل المتنازعة في مواجهة الجيش الغازي. لتبلغ الحكاية ذروتها في معركة ذي قار التي أعادت رسم معالم التاريخ العربي، وبقي صداها يتردد بوصفها رمزًا للبطولة والوحدة في وجه الطغيان.
عرض فيلم هجرة
من ملحمة الرمال واتساع الأفق إلى رحلة أكثر حميمية تلامس جوهر الإنسان، جاء عرض فيلم هجرة ليمنح اليوم الثالث من مهرجان البحر الأحمر السينمائي بعدًا إنسانيًا عميقًا.
في هذا العمل، تأخذنا المخرجة والكاتبة شهد أمين في رحلة عبر المكان والذاكرة، حيث تنطلق جدة مع حفيدتيها من الطائف إلى مكة، لكن اختفاء الحفيدة الكبرى يدفع الجدة والحفيدة الصغرى إلى طريق طويل شمالاً بحثًا عنها، في حكاية تنسج خيوطها بين فقدٍ وحنينٍ واكتشافٍ للذات.
تدور أحداث هجرة على خلفية موسم الحج، الذي يتحول هنا إلى مسرح للتأمل في معنى الانتماء، في زمن تتداخل فيه الهويات وتتقاطع فيه الأجيال.
استطاع العمل أن يعكس تنوّع الجغرافيا السعودية وغناها الثقافي، بعد أن صُوّر في ثماني مدن تمتد من الجنوب حتى الشمال، ليقدّم بانوراما بصرية تنبض بروح البلاد، في إنتاج مشترك بين السعودية والعراق ومصر والمملكة المتحدة، ليضع بصمته كأحد أكثر التجارب السينمائية نضجًا وجدّية في المشهد العربي الراهن.
عرض فيلم رهين
انتقل المهرجان بعد ذلك إلى نبض الحياة اليومية بلونها الواقعي الصريح عبر عرض فيلم رهين، الذي يبرز جانبًا آخر من تنوع السينما السعودية الحديثة.
يقدم المخرج أمين الأخنش في هذا الفيلم رؤية تجمع بين الدراما الإنسانية والطابع الكوميدي الأسود، في قصة بطلها سطّام، شاب تطارده الخيبات المتكررة وسوء الحظ، حتى يجد نفسه مهددًا بخسارة منزله المرهون.
ضغوط الحياة تدفع سطّام إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر حين يقرر تنفيذ خطة جريئة للحصول على المال من والده الثري المعروف ببخله الشديد، لتتشابك الأحداث في حبكة تعكس الصراع بين الإحباط والطموح، وتسلّط الضوء على واقع الشباب الحائر بين مسؤوليات الإرث العائلي وطموح المستقبل.
يضم العمل في بطولته نخبة من الأسماء السعودية مثل سعيد العويران، يزيد المجيول، وعبدالعزيز السكيرين، ومن كتابة أحمد عامر وعبدالعزيز العيسى، ليقدّم تجربة سينمائية تنبض بحيوية المجتمع وتشكّل مرآة ساخرة ولاذعة لتحدياته المعاصرة.
عرض فيلم كولونيا
تواصلت أفلام الدراما العائلية في المهرجان مع عرض فيلم كولونيا، وهو عمل مشترك يجمع بين مصر والنرويج وفرنسا والسعودية والسويد وقطر، ليقدّم رؤية سينمائية تتجاوز الحدود وتستند إلى المشاعر الإنسانية الخالدة.
يُعد الفيلم ملحمة شعرية مكثفة تدور أحداثها خلال ليلة واحدة، تجمع أبًا وابنه في مواجهة حاسمة، حيث تنفجر المشاعر المكبوتة وتطفو الصراعات القديمة على السطح.
في شقة واحدة تنغلق عليهم جدرانها، يصبح الزمن بطيئًا كأنه يختبر كلاً منهما أمام مرآة الماضي، لتتحول المواجهة إلى رحلة داخل العمق الإنساني للعلاقة بين الأب والابن، حيث تختلط الرغبة في الانتقام بشوق المصالحة في مزيج مؤلم من الحب والندم.
هذا الفيلم الدرامي الآسر يقدم تجربة بصرية وشعورية نقية، تُذكّر بأن السينما في جوهرها ليست فقط حكاية تُروى، بل حالة تُعاش بكل تفاصيلها. وبفضل الأداء المرهف لشخصياته والإخراج الدقيق الذي يوازن بين التوتر والصمت، يتجلّى كولونيا كتأمل حقيقي في معنى الفقد والمغفرة.
عرض فيلم دورايمون: نوبيتا في عالم اللوحات
وفي تحول مبهج يختتم تنوّع اليوم الثالث، انتقل مهرجان البحر الأحمر السينمائي من فضاءات الدراما إلى عالم نابض بالخيال واللون مع عرض فيلم الأنمي الياباني دورايمون: نوبيتا في عالم اللوحات Doraemon: Nobita's Art World Tales، الذي أضفى لمسة من البهجة الطفولية والمغامرة البصرية على أجواء المهرجان.
تبدأ حكاية الفيلم بلوحة خشبية غامضة تظهر في غرفة معيشة نوبيتا، لتتحول بعد ذلك إلى بوابة تفتح على مملكة “أرتوريا”، عالم سريالي مفعم بالألوان ولد من ضربة فرشاة وخيالٍ متقد.
هناك، يلتقي الأصدقاء بـ“كلير”، فتاة غامضة، ليجدوا أنفسهم أمام تهديد يهدد بسلب الألوان من هذا العالم البديع.
وهكذا اختتم مهرجان البحر السينمائي واحدًا من أكثر أيامه تفرّدًا وإشراقًا، يوم تنقلت فيه السينما بين الواقع والخيال، وبين عمق الإنسان واتساع الحلم.
ومع ختام هذا اليوم الزاخر بالعروض والحكايات، تتجه الأنظار إلى ما تحمله الأيام المقبلة من مفاجآت فنية واكتشافات جديدة ووُجهات فكرية ستضفي فصولاً أخرى إلى ملحمة المهرجان الذي أعاد للسينما روحها بوصفها فنًا للحياة.
