متلازمة القلق من الذكاء الاصطناعي.. الجانب المظلم للتحوّل الرقمي
بينما تتسابق المؤسسات نحو التحول الرقمي، بات الذكاء الاصطناعي العنصر الحاسم في تطوير أساليب القيادة الحديثة. فدوره لا يقتصر على تحسين الكفاءة، بل يمتد إلى إعادة تشكيل طريقة التفكير وصناعة القرار في زمنٍ سريع الإيقاع.
لكن هذا التقدم لا يخلو من التحديات. فبينما يحتفي البعض بإمكاناته، يشعر كثير من القادة بالقلق من تأثيره العميق على مستقبل الوظائف، خاصة تلك التي تعتمد على المهارات المعرفية والمكتبية.
فالذكاء الاصطناعي التوليدي لا يكتفي بالمساعدة، وإنما يعيد تشكيل الواقع المهني بوتيرة غير مسبوقة، ما يثير تساؤلات وجودية حول دور الإنسان في بيئة العمل المستقبلية.
لماذا نقلق من الذكاء الاصطناعي؟
التحول نحو الذكاء الاصطناعي لا يمر بسلاسة داخل المؤسسات، فهو يثير موجة من المشاعر المتناقضة، تتراوح بين الحماسة والقلق، وبين الأمل والخوف. ويمكن تلخيص أبرز أسباب هذا القلق في ثلاث نقاط رئيسة:
تراجع الدور والأهمية
كل تحول جذري في بيئة العمل يوقظ مشاعر دفينة ومعقدة، والذكاء الاصطناعي يُعد من أكثر هذه التحولات إثارة للقلق. فليس من السهل على الإنسان أن يواجه واقعًا جديدًا يُعيد تشكيل دوره، ويهدد استقراره، ويثير تساؤلات وجودية حول قيمته ومكانته.
في زمن الذكاء الاصطناعي، لا تكمن التحديات في التقنية ذاتها، بل في ما تثيره من مشاعر يصعب تجاهلها. كثيرون يشعرون بالقلق من فقدان وظائفهم أو مصادر دخلهم التي بُنيت عبر سنوات، ويخافون من تراجع تأثيرهم أو انحسار أهميتهم في مؤسساتهم.
البعض يعيش حالة من الإرهاق أمام سرعة التغيير، فيما يتملك البعض الآخر شعورًا بالاستياء من غموض المتطلبات أو تغيّر الأولويات. وهناك من يشعر بالوحدة نتيجة تراجع التواصل الإنساني، أو يفقد الثقة في القيادة ويشك في نواياها تجاه مستقبل الموظفين.
هذه المشاعر، إن لم تُواجه بوعي، تتسلل إلى الجسد والسلوك: احتراق نفسي، قرارات متسرعة، انسحاب من المشهد، أو حتى عدوانية غير مبررة.
اقرأ أيضا: وصمة مهنية تلاحق الأطباء الذين يعتمدون على الذكاء الاصطناعي
انطفاء الإبداع
القلق من الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على احتمال فقدان الوظائف، بل يمتد إلى ما هو أعمق: فقدان المعنى.
فالعمل بالنسبة للكثيرين بمنزلة مساحة للإبداع، وإثبات للذات، والشعور بالخبرة والإنجاز والاستقلالية. وحين تبدأ الآلات في أداء المهام التي كانت تُعرّفنا مهنيًا، يتسلل شعور مربك بأننا لم نعد نُشكّل فارقًا، أو أن قيمتنا باتت قابلة للاستبدال.
هذا القلق ليس جديدًا، بل هو امتداد لما يُعرف بـ "قلق الأتمتة"، كما يصفه الباحث زياد بهورات. ويقول: "أن ترى أدواتك تؤدي مهامك بمدخل أقل منك هو أمر يثير الإعجاب والاضطراب في آنٍ واحد، لأنه يعني أننا أصبحنا نعتمد عليها بقدر ما نتحكم بها".
فحين تُسحب منّا لحظات الإبداع، أو يُختزل دورنا في مجرد إشراف على آلة، فإننا نفقد جزءًا من هويتنا، ومن إحساسنا بالغاية.
فقدان السيطرة
في ظل التحول الرقمي المتسارع، يشعر كثيرون أن الذكاء الاصطناعي لا ينتظر أحدًا. فالتطور لم يعد نابعًا من داخل المؤسسات، وإنما تُحرّكه شركات تقنية عملاقة تفرض إيقاعًا عالميًا جديدًا، فيما تظل السياسات والتشريعات متأخرة عن اللحاق بهذا الإيقاع.
هذا التفاوت بين سرعة التقنية وبطء التنظيم يخلق حالة من التوتر الجماعي، ويُعمّق الإحساس بأن زمام المبادرة لم تعد في يد الأفراد أو حتى المؤسسات، بل في يد خوارزميات تتطور بلا توقف.
تحويل القلق إلى قوة دافعة
القلق من الذكاء الاصطناعي ليس ضعفًا، بل هو انعكاس لوعي عميق بحجم التحول الذي يطرأ على بيئة العمل، وعلى الأدوار التي اعتدنا أن نعرّف بها أنفسنا. لكن هذا القلق، إذا أُدير بذكاء، يمكن أن يتحول إلى دافع للتعلّم، وإعادة التمركز، واستعادة زمام المبادرة.
الخطوة الأولى تبدأ من إدراك أن رد الفعل الطبيعي هو التفاعل الواعي. فبدلاً من الوقوف في موقع المتفرج، يمكننا أن نعيد تشكيل علاقتنا بالتقنية عبر تعلّم مهارات جديدة تواكب المرحلة، وتمنحنا فهمًا أعمق لما يحدث حولنا.
سواء كان ذلك عبر تطوير القدرات الرقمية، أو فهم أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، أو تعزيز مهارات التفكير النقدي والتواصل في بيئة عمل هجينة، فإن التعلم هو ما يعيد للإنسان مكانته في مشهد يتغير بسرعة.
لكن الفعل لا يتوقف عند حدود المهارات. وإنما يشمل أيضًا فتح حوارات صريحة داخل الفرق حول المخاوف والتوقعات، والمساهمة في صياغة سياسات أكثر عدالة وإنصافًا، والاستثمار في أنشطة تُعيد التواصل الإنساني إلى قلب المؤسسة.
الذكاء الاصطناعي لن يتباطأ، لكننا نملك خيارًا جوهريًا: أن نكون جزءًا من هذا التقدم، لا ضحاياه.
اقرأ أيضا: تقرير: فشل مشروعات الذكاء الاصطناعي سببه إداري لا تقني
لماذا لن يسيطر الذكاء الاصطناعي بالكامل؟
رغم القفزات الهائلة التي حققها الذكاء الاصطناعي التوليدي في تحليل البيانات وإنتاج النصوص والصور، يبقى جوهر الإنسان عصيًّا على المحاكاة، إذ يحتفظ بقدرات لا يمكن لأي خوارزمية أن تحاكيها أو تحلّ محلّها.
يؤكد تقرير صادر عن معهد بروكينغز الأمريكي أن هناك ركائز أساسية تميّز الإنسان عن الآلة، تظل خارج حدود البرمجة مهما بلغ التطور التقني.
فالآلة، مهما بلغت دقتها الحسابية، تفتقر إلى البصيرة الأخلاقية التي توازن بين المصلحة والمسؤولية، وتضفي على القرار بُعدًا إنسانيًا يتجاوز الحسابات الباردة.
كما أنها تعجز عن امتلاك الذكاء العاطفي الذي يمكّن الإنسان من فهم ما وراء الكلمات، والتقاط الإشارات الخفية في المواقف المعقدة.
أما الإبداع الإنساني، فهو ليس مجرد توليد للأفكار أو إعادة تركيب للمعلومات، بل القدرة على إضفاء المعنى والقيمة، وتحويل الفكرة إلى أثر يترك بصمة في الواقع.
تشير هذه المعطيات إلى أن المستقبل المهني والمعرفي لن يُبنى على منافسة بين الإنسان والتقنية، وإنما على تكاملٍ يجمع بين قدرات التحليل الاصطناعي وبصيرة الإنسان، بحيث يظل العقل البشري هو المرجع الأعلى في اتخاذ القرار.
