من الفوضى إلى الانضباط: دروس الخلافة بين مردوخ وبافيت
في عالم عمالقة المال والأعمال، لا يؤثر أسلوب انتقال القيادة على مستقبل الشركة فحسب، بل يمتد أثره إلى الإرث الذي تتركه للأجيال المقبلة. ولا تجسّد هذه الحقيقة أكثر من قصتي التوريث المتباينتين لكل من روبرت مردوخ ووارن بافيت.
انتقال إرث مردوخ تميّز بالفوضى والانقسامات العائلية، مع تسوية قانونية قياسية بلغت 3.3 مليار دولار، ما كشف المخاطر الحقيقية للتخطيط المتأخر وغير الشفاف للتوريث. لعقود طويلة، قدّمت عائلة مردوخ درسًا صارخًا حول تصادم الديناميكيات العائلية مع الاستراتيجيات التجارية والقيم الشخصية، خاصة حين تكون المليارات على المحك.
اقرأ أيضاً: المحتوى الرّقمي في عصر الذكاء الاصطناعي: تحديات وفرص استراتيجيّة
على النقيض، جاءت عملية التوريث لدى وارن بافيت نموذجًا شبه مثالي؛ إذ تمت بسلاسة ووضوح على مدى عقود، مع الحفاظ على الوئام العائلي والرؤية الاستراتيجية للشركة، مؤكدة أن التنسيق الدقيق والشفافية يمكن أن يضمنا استمرار المؤسسة دون صدامات داخلية.
هذان المثالان المتناقضان يقدّمان دروسًا قيّمة لكل قائد يستعد لتسليم الشعلة إلى الجيل التالي، مشيرين إلى أن الإرث الحقيقي لا يُقاس بالمليارات وحدها، بل بقدرة القائد على تحقيق التوازن بين العائلة والعمل والرؤية المستقبلية.
ملحمة مردوخ: عندما تتحوّل الخلافة إلى حرب مكلفة
في الرابعة والتسعين من عمره، ظلّ روبرت مردوخ صاحب الكلمة الأخيرة. وعام 2025 شهد توقيعه على تسوية بلغت 3.3 مليار دولار، أنهت عقودًا من التكهنات حول من سيرث إمبراطوريته الإعلامية.
ما بدأ خلافًا حول القيم والرؤى بين الأشقاء تحوّل إلى واحدة من أغلى التسويات العائلية في التاريخ، منحت لاكلان السيطرة الكاملة، فيما خرج الإخوة بحصص مالية ضخمة.
تعود جذور القصة إلى عام 2020، حين ظهر الشرخ الأول بين الجيلين حول تغطية قضية المناخ، كاشفًا عن صراع أعمق امتد لخمس سنوات. التحول في خطة مردوخ من توزيع السلطة بالتساوي إلى تركيزها في يد الابن الأكبر أشعل النزاعات، وحوّل الخلافة إلى صراع طويل ومكلف دفع الجميع ثمنه.
اقرأ أيضاً: "لا تغتروا بمارك زوكربيرغ".. نصيحة من جيف بيزوس لرواد الأعمال الشباب
تكشف تجربة مردوخ كيف يمكن أن يؤدي التأجيل وعدم الشفافية في التوريث إلى أزمة علنية ومكلفة، وتوضح التحديات التي تواجه الشركات العائلية عندما تتقاطع الديناميكيات العائلية مع الاستراتيجية التجارية.
نموذج بافيت: الخلافة بالتخطيط
في سن الخامسة والتسعين، أعلن وارن بافيت تقاعده نهاية عهد بلا مفاجآت، مؤكّدًا مرة أخرى فلسفته الاستثمارية الدقيقة في إدارة الخلافة. مع تنحيه عن منصب الرئيس التنفيذي في يناير 2026 لصالح نائب الرئيس جريجوري آبيل، سيبقى بافيت رئيسًا لمجلس الإدارة وأكبر المساهمين، محققًا الانتقال السلس الذي بدأ التخطيط له منذ سنوات.
لم تقتصر خطة الخلافة على الإدارة فحسب، بل شملت الأسرة أيضًا؛ إذ من المقرر أن يتولى ابنه هوارد دور رئيس مجلس الإدارة غير التنفيذي، مع تحديد واضح للفصل بين السيطرة التشغيلية والحفاظ على إرث العائلة. كما يربط بافيت التزامه بالأعمال الخيرية بإشراف أبنائه ضمن هيكل حوكمة موحّد، يجسّد قيم العائلة وتأثيرها الاجتماعي الأوسع.
تعكس هذه الاستراتيجية المرنة والقابلة للتكيّف ثقافة الثقة والتعاون، وتؤسس لإرث مستقبلي يتجاوز الأعمال التجارية ليشمل وحدة الأسرة والعمل الخيري.
الدروس المستقاة من النهجين
تقدم قصتا “مردوخ” و”بافيت” دروسًا ثمينة لكل من يقود شركة عائلية أو علامة تجارية قائمة على الإرث، موضحتين كيف يمكن لانتقال السلطة أن يكون قوة موحّدة تعزز المؤسسة ووحدة العائلة، أو محفزًا للانقسامات والصراعات.
ابدأ مبكرًا وكن شفافًا: التخطيط للخلافة ليس حدثًا لمرة واحدة، بل عملية مستمرة تتطور مع الوقت. يبرز مثال بافيت، بتخطيطه الاستباقي الذي امتد لعقود، كنقيض كامل لتغييرات مردوخ المفاجئة؛ إذ يعزز التواصل الشفاف والمشاركة المبكرة الثقة ويمنع تحوّل الانتقال إلى صراع مكلف وغير متوقع.
مواءمة قيم العائلة مع رؤية الأعمال: تكشف قصة مردوخ كيف يمكن لغياب الانسجام بين قيم الأسرة والاستراتيجية التجارية أن يقود إلى تصدّع الوحدة وتصاعد النزاعات. في المقابل، تستثمر العائلات الناجحة في مواءمة مبادئها الأساسية مع أهداف المؤسسة لضمان رؤية موحّدة تعزّز الجبهة العائلية في فترات الانتقال الحساسة.
إدارة الديناميكيات العائلية وتعزيز التواصل المفتوح: التوريث ليس مجرد ملف قانوني أو تجاري، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلاقات العائلية. توضح تجربة مردوخ كيف يمكن للتنافس بين الأشقاء والطموحات الشخصية أن يصبح مدمرًا إذا لم يُدار بوعي. ويمكن لأدوات مثل قنوات التواصل الرسمية، والوساطة، والمجالس العائلية أن تساعد على حل النزاعات مبكرًا والحفاظ على الثقة.
اقرأ أيضاً: هندسة الفوز: ما الذي يمكن لقادة الأعمال تعلّمه من عالم الفورمولا 1؟
بناء أطر حوكمة مرنة ومتوازنة: تمثّل الحوكمة الفعّالة العمود الفقري لاستمرارية الأعمال العائلية، بدءًا من هياكل الصناديق الائتمانية ومجلس الإدارة، وصولاً إلى المجالس الاستثمارية.
توضح تجربة مردوخ كيف يمكن للصناديق الجامدة أن تتحول إلى عقبات ونزاعات مكلفة، بينما تبرز قصة بافيت كيف تساهم أطر الحوكمة المرنة، التي تحدّد الحقوق والمسؤوليات بوضوح، في خلق خلافة مستقرة وقابلة للتكيف.
إعداد الجيل المقبل بشكل مدروس: وضوح الأدوار والتدريب المستمر للقادة المقبلين عنصر بالغ الأهمية لأي انتقال سلس للسلطة. وتكشف تحديات عائلة مردوخ المخاطر الكبيرة التي تنجم عن غياب قواعد واضحة تحدد مسؤوليات الخلفاء وحدود صلاحياتهم.
استخدام السيولة بشكل استراتيجي: تُظهر تسوية مردوخ البالغة 3.3 مليار دولار أن أدوات السيولة وآليات الشراء ليست مجرد معاملات مالية، بل أدوات حوكمة حيوية تحمي المؤسسة من النزاعات طويلة الأمد. صحيح أن مردوخ تأخر في تبنّي هذا الحل، لكنه لجأ إليه في النهاية لوضع حد للصراع قبل أن يتفاقم.
الخلاصة: نجاح التوريث لا يقتصر على الوثائق القانونية، بل يتطلب جهدًا مستمرًا لإعداد الأشخاص، وتوحيد المصالح، وتعزيز التواصل، وتكييف أطر الحوكمة مع التغيرات، لضمان انتقال سلس ومستدام للسلطة.
